تفسير القضية المتواترة
والقضية المتواترة هي الصنف الثالث من القضايا اليقينية الأوّلية في رأي المنطق الأرسطي، فتصديقنا بوجود الأشخاص أو الحوادث التي تواتر نقلها، يعتبر- في المنطق الأرسطي- تصديقاً أوّلياً. ويعرِّف المنطق الأرسطي التواتر بأ نّه «إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب».
وكأنّ المنطق الأرسطي يفترض تصديقاً أوّلياً بامتناع اتفاق عدد كبير من الناس على الكذب، وهذا التصديق هو الذي يشكّل الأساس لثقتنا اليقينية بتلك الحوادث، وهو يشابه تماماً التصديق بأنّ الاتفاق لا يكون دائمياً، الذي جعله المنطق الأرسطي أساساً للقضايا التجريبية والحدسية، فكما لا يكون الاتفاق دائمياً كذلك لا يكون الكذب دائمياً. فإذا اطّرد الإخبار عن شيء معيّن من عدد كبير من المخبرين، عرفنا أنّ القضية التي اتفقوا على الإخبار عنها صادقة.
فلو اشترك عدد كبير من الناس في احتفال، وبعد انتهائه سألنا كلّ واحد منهم عن الشخص الذي حاضَرَ في ذلك الاحتفال، فجاءت الأجوبة كلّها تؤكّد أنّ فلاناً هو الذي ألقى محاضرة في ذلك الحفل، كانت هذه القضية متواترة ويقينية الصدق في رأي المنطق الأرسطي؛ لأنّ الكذب لا يكون دائمياً.
وموقفنا من التصديق بأنّ الكذب لا يكون دائمياً- أو التصديق بامتناع اتفاق عدد كبير من الناس على الكذب- هو موقفنا من التصديق بأنّ الاتفاق (الصدفة النسبية) لا يكون دائمياً، فهو في الحقيقة تصديق استقرائي وليس تصديقاً عقلياً أوّلياً. ويكفي لنفي كونه تصديقاً عقلياً أوّلياً نفس الحجج والمناقشات التي أثرناها في القسم الأوّل من هذا الكتاب ضدّ الطابع العقلي القبلي