والفرق بين التجريبيين غير الوضعيين والمناطقة الوضعيين، يتمثّل في موقفهما من القضية التي لا توجد كيفية معيّنة لاستخدام التجربة والخبرة الحسّية من أجل إثبات صدقها: فهي تعتبر في رأي المناطقة الوضعيين فارغة من المعنى، وأمّا التجريبيون غير الوضعيين فيعترفون بأ نّها قضية ذات معنى من الناحية المنطقية، لأنّهم لا يربطون معنى القضية بكيفية إثبات صدقها، ولكنّهم يربطون درجة التصديق بها بمدى قدرة التجربة على إثباتها، فكلّ قضية لا يمكن للتجربة أن تبرهن عليها لا يمكن قبولها؛ لأنّ التجربة والخبرة الحسيّة هي المصدر الأساس للمعرفة في رأي المذهب التجريبي.
وعلاقة السببيّة- بمفهومها العقلي، بوصفها علاقة ضرورة بين (أ) و (ب)- من القضايا التي لا تمتدّ الخبرة الحسّية إليها؛ لأنّ الخبرة الحسّية بإمكانها أن تدرك (أ) و (ب) واقتران أحدهما بالآخر، وأمّا علاقة الضرورة بينهما فليس بإمكان الخبرة الحسّية أن تدركها.
وعلى هذا الأساس رفض (دافيد هيوم) علاقة السببيّة بوصفها علاقة ضرورة، وفسَّرها: بأ نّها مجرّد اقتران أو تعاقب مطّرد بين الظاهرتين، تجاوباً مع اتجاهه التجريبي في نظرية المعرفة. وكان ذلك بداية تحوّل السببيّة، في الفكر الفلسفي الحديث، من علاقة ضرورة بين ظاهرتين إلى قوانين سببيّة تصف اطراداً معيّناً للاقتران أو التعاقب بين ظاهرتين، دون أن تضيف إلى ذلك أيّ افتراض عقلي للضرورة.
والحقيقة أ نّه ليس بالإمكان رفض علاقة الضرورة بين السبب والمسبّب على أساس المذهب التجريبي في نظرية المعرفة؛ لأنّ الاتجاه التجريبي في تفسير المعرفة البشرية لا يبرهن على نفي علاقة الضرورة هذه ولا يكفي لتبرير الاعتقاد بعدمها، وإنّما يربط المعرفة بالخبرة والتجربة، فما لم تتوفّر التجربة على إثبات