والمعروف عن أبي حنيفة أ نّه كان متفوّقاً في ممارسة هذا النوع من العمل الفقهي، فقد روي عن تلميذه محمد بن الحسن: أنّ أبا حنيفة كان يناظر أصحابه فينتصفون منه ويعارضونه، حتى إذا قال: أستحسن لم يلحقه أحد[1]. وجاء في كلام له وهو يحدِّد نهجه العام في الاستنباط: «إنّي آخذ بكتاب اللَّه إذا وجدته، فما لم أجده أخذت بسنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فإذا لم أجد في كتاب اللَّه ولا سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذت بقول أصحابه مَن شئت وأَدَع من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين فلي أن أجتهد كما اجتهدوا»[2].
والفكرة الأساسية التي دعت إلى قيام هذه المدرسة وتبنّي العقل المنفتِح بوصفه وسيلةً رئيسيةً للإثبات ومصدراً لاستنباط الحكم هي الفكرة الشائعة في صفوف تلك المدرسة التي كانت تقول: «إنّ البيان الشرعي المتمثّل في الكتاب والسنّة قاصر لا يشتمل إلّاعلى أحكام قضايا محدودة، ولا يتّسع لتعيين الحكم الشرعي في كثيرٍ من القضايا والمسائل».
وقد ساعد على شيوع هذه الفكرة في صفوف فقهاء العامة اتّجاههم المذهبي السنّي، إذ كانوا يعتقدون أنّ البيان الشرعي يتمثّل في الكتاب والسنّة النبوية المأثورة عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فقط، ولمّا كان هذا لا يفي إلّابجزءٍ من حاجات الاستنباط اتّجهوا إلى علاج الموقف وإشباع هذه الحاجات عن طريق تمطيط العقل والمناداة بمبدأ الاجتهاد.
وأمّا فقهاء الإمامية فقد كانوا على العكس من ذلك بحكم موقفهم المذهبي؛
[1] مناقب الإمام الأعظم للموفّق المكّي 1: 82
[2] انظر تأريخ بغداد 13: 368، تهذيب الكمال 29: 443