نقد المذهب التجريبي:
هذا عرض موجز للمذهب التجريبي الذي نجد أنفسنا مضطرّين إلى رفضه للأسباب الآتية:
الأوّل: أنّ نفس هذه القاعدة: (التجربة هي المقياس الأساسي لتمييز الحقيقة) هل هي معرفة أوّلية حصل عليها الإنسان من دون تجربة سابقة؟ أو أ نّها بدورها- أيضاً- كسائر المعارف البشرية ليست فطرية ولا ضرورية؟ فإذا كانت معرفة أوّلية سابقة على التجربة بطل المذهب التجريبي الذي لا يؤمن بالمعارف الأوّلية، وثبت وجود معلومات إنسانية ضرورية بصورة مستقلّة عن التجربة، وإذا كانت هذه المعرفة محتاجة إلى تجربة سابقة فمعنى ذلك: أ نّا لا ندرك في بداية الأمر أنّ التجربة مقياس منطقي مضمون الصدق، فكيف يمكن البرهنة على صحّته واعتباره مقياساً بتجربة ما دامت غير مضمونة الصدق بعد؟!
وبكلمة اخرى: أنّ القاعدة المذكورة التي هي ركيزة المذهب التجريبي إن كانت خطأ سقط المذهب التجريبي بانهيار قاعدته الرئيسية، وإن كانت صواباً صحّ لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل التجريبيين يؤمنون بصواب هذه القاعدة، فإن كانوا قد تأكّدوا من صوابها بلا تجربة فهذا يعني: أ نّها قضية بديهية وأنّ الإنسان يملك حقائق وراء عالم التجربة، وإن كانوا قد تأكّدوا من صوابها بتجربة سابقة فهو أمر مستحيل؛ لأنّ التجربة لا تؤكّد قيمة نفسها.
الثاني: أنّ المفهوم الفلسفي الذي يرتكز على المذهب التجريبي يعجز عن إثبات المادّة؛ لأنّ المادّة لا يمكن الكشف عنها بالتجربة الخالصة، بل كلّ ما يبدو للحسّ في المجالات التجريبية إنّما هو: ظواهر المادّة وأعراضها، وأمّا نفس المادّة بالذات- الجوهر المادّي الذي تعرضه تلك الظواهر والصفات- فهي