وثانياً- إنّ السير الفكري في رأي العقليين يتدرّج من القضايا العامّة إلى قضايا أخصّ منها، من الكلّيات إلى الجزئيات، وحتّى في المجال التجريبي الذي يبدو لأوّل وهلة أنّ الذهن ينتقل فيه من موضوعات تجريبية جزئية إلى قواعد وقوانين عامّة، يكون الانتقال والسير فيه من العامّ إلى الخاصّ[1]، كما سنوضّح ذلك عند الردّ على المذهب التجريبي.
ولا بدّ أ نّك تتذكّر ما ذكرنا مثالًا لعملية التفكير، وكيف انتقلنا فيه من معرفة عامة إلى معرفة خاصّة، واكتسبنا العلم بأنّ (المادّة حادثة) من العلم بأنّ (كلّ متغيّر حادث)، فقد بدأ الفكر بهذه القضية الكلّية (كلّ متغيّر حادث) وانطلق منها إلى قضية أخصّ منها، وهي: (أنّ المادّة حادثة).
وأخيراً يجب أن ننبّه على أنّ المذهب العقلي لا يتجاهل دور التجربة الجبّار في العلوم والمعارف البشرية، وما قدّمته من خدمات ضخمة للإنسانية، وما كشفت عنه من أسرار الكون وغوامض الطبيعة، ولكنّه يعتقد أنّ التجربة بمفردها لم تكن تستطيع أن تقوم بهذا الدور الجبّار؛ لأنّها تحتاج في استنتاج أيّة حقيقة علمية منها إلى تطبيق القوانين العقلية الضرورية، أي: أن يتمّ ذلك الاستنتاج على ضوء المعارف الأوّلية، ولا يمكن أن تكون التجربة بذاتها المصدر الأساسي والمقياس الأوّل للمعرفة، فشأنها شأن الفحص الذي يجريه الطبيب على
[1] هذا من جملة ما اختلف فيه رأي المؤلّف قدس سره بعد تأليفه لهذا الكتاب، حيث انتهى رحمه الله- في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة الذي طرحه في كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء»- إلى أنّ المجالات الفكريّة التي ينتقل فيها الذهن من استقراء الموضوعات الجزئيّة إلى قواعد وقوانين عامّة يكون السير الفكري فيها- حقّاً- من الخاصّ إلى العامّ، ولا حاجة فيها إلى ضمّ كبرى كليّة عقليّة مسبقة ليتحوّل السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ كما يدّعيه أصحاب المذهب العقلي للمعرفة.( لجنة التحقيق)