فلماذا لا يتذكّران الآن جميع أحاديثهما التي تبادلاها؟! ولماذا لا تقوم تلك الأحاديث بدور التنبيه والاستثارة؟!
ومثال آخر: تخرج من البيت وقد وضعت رسالة في حقيبتك، عازماً على وضعها في صندوق البريد، وأنت تتّجه نحو المدرسة، فتصادف في طريقك صندوقاً للبريد، فتدرك فوراً أنّ الكتاب لا بدّ من وضعه فيه، فتضعه فيه. ثمّ قد تمرّ بعد ذلك على عدّة صناديق للبريد فلا تسترعي انتباهك مطلقاً، فما هو المنبّه المثير لإدراكك عند رؤية أوّل صندوق للبريد؟! وقد تقول: إنّ المثير هو رؤية الصندوق نفسه، باعتبار أ نّك أشرطته بالمنبّه الطبيعي، فهو منبّه شرطي. ولكن كيف نفسّر غفلتنا عن الصناديق الاخرى؟! ولماذا زال الإشراط فوراً بمجرّد قضاء حاجتنا؟!
ففي ضوء الأمثلة تعرف أنّ الفكر نشاط إيجابي فعّال للنفس، وليس رهن ردود الفعل الفيزيولوجية، كما أ نّه ليس هو الواقع المباشر للّغة، كما زعمت الماركسية، بل اللغة أداة لتبادل الأفكار، وليست هي المكوّنة لتلك الأفكار، ولذا قد نفكّر في شيء، ونفتّش طويلًا عن اللفظ المناسب له؛ للتعبير به عنه، وقد نفكّر في موضوع، في نفس الوقت الذي نتكلّم فيه عن موضوع آخر[1].
فالحياة الاجتماعية والظروف المادّية- إذن- لا تحدّد أفكار الناس
[1] وقد قمنا في دراستنا الموسّعة للمادّية التأريخية في كتاب( اقتصادنا) بنقد مستوعب لنظريات الماركسية عن الإدراك البشري من ناحية علاقته بالظروف الاجتماعية والمادّية، وتفسيره على أساس الظروف الاقتصادية، كما تناولنا بتفصيل الرأي الماركسي القائل: بانبثاق الفكر من اللغة وارتباطه بها. ولأجل هذا نكتفي هنا بما جاء في الطبعة الاولى من هذا الكتاب استغناءً بدراستنا الموسّعة في الحلقة الثانية( اقتصادنا).( المؤلّف قدس سره)