كما يمكن أن يكون متّصلًا، كذلك يمكن أن يكون محتوياً على فراغ تتخلّله أجزاء دقيقة.
وأمّا الجانب الفلسفي في نظرية ديمقريطس، فلا تمسّه الكشوف العلمية بشيء، ولا تبرهن على صحّته، بل تبقى مسألة وجود مادّة أبسط من المادّة العلمية في ذمّة الفلسفة، بمعنى: أنّ الفلسفة يمكنها أن تأخذ أعمق مادّة توصّل إليها العلم في الميدان التجريبي، وهي الذرّة ومجموعتها الخاصّة، فتبرهن على أ نّها مركّبة من مادّة أبسط وصورة. ولا يتناقض ذلك مع الحقائق العلمية؛ لأنّ هذا التحليل والتركيب الفلسفي ليس ممّا يمكن أن يظهر في الحقل التجريبي.
وكما أخطأ هؤلاء في زعمهم أنّ التجارب العلمية تدلّل على صحّة النظرية بكاملها، مع أ نّها متّصلة بجانبها العلمي فقط، كذلك أخطأ عدّة من الفلاسفة الأقدمين الذين رفضوا الجانب الفلسفي من النظرية، فعمّموا الرفض للناحية العلمية أيضاً، وادّعوا- من دون سند علمي أو فلسفي- أنّ الأجسام متّصلة، وأنكروا الذرّة والفراغ في محتواها الداخلي.
والموقف الذي يجب أن نقفه في المسألة هو: أن نقبل الجانب العلمي من النظرية، الذي يؤكّد أنّ الأجسام ليست متّصلة، وأ نّها مركّبة من ذرّات دقيقة إلى الغاية؛ فإنّ هذا الجانب قد كشفت عنه الفيزياء الذرّية بصورة لا تدع مجالًا للشكّ.
وأمّا الجانب الفلسفي من النظرية القائل ببساطة تلك الوحدات التي تكشف عنها الفيزياء الذرّية، فنرفضه؛ لأنّ الفلسفة تبرهن على أنّ الوحدة التي تكشف عنها الفيزياء- مهما كانت دقيقة- مركّبة من صورة ومادّة. ونطلق على هذه المادّة اسم المادّة الفلسفية؛ لأنّها المادّة الأبسط التي يثبت وجودها بطريقة فلسفية لا علمية. وقد حان لنا الآن أن ندرس هذه الطريقة الفلسفية.