وقد أصرّت الماركسية على وضع التجربة مقياساً أعلى، وتخلّصت من هذا المأزق بوضع قانون الحركة والتطوّر في العلوم والأفكار؛ نظراً إلى أنّ الفكر جزء من الطبيعة، وهو بهذا الاعتبار يحقّق قوانين الطبيعة كاملة، فيتطوّر وينمو كما تتطوّر الطبيعة. وليس التطوّر العلمي يعني سقوط المفهوم العلمي السابق، وإنّما يعبّر عن حركة تكاملية في الحقيقة والمعرفة. فالحقيقة والمعرفة هي الحقيقة والمعرفة، غير أ نّها تنمو وتتحرّك وتتصاعد بصورة مستمرّة.
وهكذا قضى بذلك على جميع البدهيات والحقائق؛ لأنّ كلّ فكر سائر في سراط التطوّر والتغيّر، فليست توجد حقيقة ثابتة في دنيا الفكر مطلقاً، ولا يؤمن على ما ندركه الآن من البديهيات- نظير إدراكنا: أنّ الكلّ أكبر من الجزء، وأنّ 2+ 2/ 4- أن يكتسب شكلًا آخر في حركته التطوّرية، فندرك الحقيقة عند ذاك على وجه آخر.
ولمّا كانت الحركة التي وضعتها الماركسية كقانون للفكر وللطبيعة بصورة عامّة لا تنبثق إلّاعن قوّة وسبب، ولم تكن في العالم حقيقة إلّاالمادّة في زعمها، فقد قالت: إنّ الحركة حصيلة تناقضات في المحتوى الداخلي للمادّة، وإنّ هذه المتناقضات تتصارع فتدفع بالمادّة وتطوّرها. ولهذا ألغت الماركسية مبدأ عدم التناقض، واتّخذت من الديالكتيك طريقة لفهم العالم، ووضعت مفهومها المادّي في إطاره.
وهكذا يتّضح: أنّ جميع الجوانب الفلسفية للمادّية الديالكتيكية، مرتبطة بالنقطة المركزية (المفهوم المادّي)، وقد صيغت لأجل تركيزها والحفاظ عليها.
وليس إسقاط البديهيات وجعلها عرضةً للتغيّر، أو الإيمان بالتناقض واعتباره قانوناً عاماً للطبيعة، وما إليها من النتائج الغريبة التي انتهت إليها الماركسية، إلّا تسلسلًا حتمياً للانطلاق الذي بدأ من المفهوم المادّي الماركسي، وتبريراً له في المجال الفلسفي.