جواب واحد، وهو الجواب الذي يقدّمه المذهب العقلي القائل: بأنّ تلك الانعكاسات للمبادئ الرياضية في الذهن البشري لمّا كانت فطرية وضرورية فهي مضمونة الصحّة بصورة ذاتية، فالحقائق الرياضية ممكنة المعرفة لا لأنّنا نحن نخلقها، بل لأنّنا نعكسها في علوم فطرية ضرورية.
الثاني- أنّ (كانت) يعتبر القوانين المتأصّلة في العقل البشري قوانين للفكر، وليست انعكاسات علمية للقوانين الموضوعية التي تتحكّم في العالم وتسيطر عليه بصورة عامّة، بل لا تعدو أن تكون مجرّد روابط موجودة في العقل بالفطرة ينظّم بها إدراكاته الحسّية. وقد سبق أنّ هذا الخطأ هو الذي نتج عنه القول بنسبية الحقائق المدرَكة عن عالم الطبيعة، والقول بتعذّر درس الميتافيزيقا دراسة عقلية، وعدم إمكان إقامتها على أساس تلك الإدراكات العقلية الفطرية؛ لأنّها مجرّد روابط ينظّم العقل بها إدراكاته الحسّية، وليست لدينا إدراكات فيما يخصّ موضوعات الميتافيزيقا لتنظم بتلك الروابط.
والانسياق مع المذهب النقدي هذا يؤدّي إلى المثالية حتماً؛ لأنّ الإدراكات الأوّلية في العقل إذا كانت عبارة عن روابط معلّقة تنتظر موضوعاً لتظهر فيه، فكيف يتاح لنا أن نخرج من التصوّرية إلى الموضوعية؟! وكيف نستطيع أن نثبت الواقع الموضوعي لأحاسيسنا المختلفة، أي: ظواهر الطبيعة التي يعترف بموضوعيّتها (كانت)؟! فنحن نعلم أنّ طريق إثبات الواقع الموضوعي للإحساس هو: مبدأ العلّية الذي يحكم بأنّ كلّ انفعال حسّي لا بدّ أن ينبثق عن سبب أثار ذلك الانفعال الخاصّ، فإذا رجعت العلّية في مفهوم (كانت) إلى رابطة بين الظواهر المحسوسة، فهي عاجزة بطبيعة الحال عن القيام بأيّ وظيفة أكثر من الربط بين إحساساتنا وما يبدو فيها من ظاهرات، ومن حقّنا- حينئذٍ- أن نسأل (كانت) عن المبرّرات الفلسفية في نظره للاعتقاد بواقع موضوعي للعالم