دون غيرها من البلاد العالميّة والعربيّة التي شهدت مدنيّات أضخم وشروطاً مادّية أرقى، وكانت تفوق مكّة في ظروفها السياسيّة والاقتصاديّة؟! أفلم يكن من المحتوم في المنطق المادّي للتاريخ أن ينبثق التطوّر الاجتماعي الجديد من تلك البلاد؟! فكيف استطاعت ظروف تجاريّة معيّنة في بلد كمكّة أن تخلق تاريخاً إنسانيّاً جديداً، بينما عجزت عن مثل ذلك ظروف مشابهة، أو ظروف أكثر منها تطوّراً ونموّاً؟!
فلئن كانت مكّة تتمتّع بظرف تجاري مناسب لمرور التجارة بها بين اليمن وسوريا فقد كان الأنباط يتمتّعون بظروف تجاريّة مهمّة حين أنشؤوا (بَطرا) كمحطّة للطرق التجاريّة، وأنشؤوا فيها مدنيّة من أرقى المدنيّات العربيّة، حتّى امتدّ نفوذهم إلى ما يجاورهم من البلاد، وأقاموا فيها حاميات للقوافل التجاريّة وأماكن لاستغلال المناجم، وأصبحت مدينتهم ردحاً من الزمن المدينة الرئيسيّة للقوافل ومركزاً تجاريّاً مهمّاً، وامتدّ نشاطهم التجاري إلى مناطق واسعة، حتّى وجدت آثار تجارتهم في (سلوقية) وموانئ سورية والاسكندريّة، وكانوا يتاجرون بالأفاويه[1] من اليمن، والحرير من الصين، والحناء من عسقلان، والزجاج وصبغ الإرجوان من صيدا وصور، واللؤلؤ من الخليج الفارسي، والخزف من روما، وينتجون في بلادهم الذهب والفضّة والقار وزيت السمسم ….
وبالرغم من هذا المستوى التجاري والإنتاجي الذي لم تصل إليه مكّة ظلّت الأنباط في علاقاتها الاجتماعيّة كما هي تنتظر دور مكّة الربّاني في تطوير التاريخ.
[1] الأفاويه: التوابل ونوافح الطيب والزهر أو خصوص الأبيض منه. القاموس المحيط 4: 416. و 2: 210.( لجنة التحقيق)