العشائريّة المتناقضة، فقفز بتلك الوحدات إلى وحدة إنسانيّة كبرى، وتسامى بالمسلمين من فكرة المجتمع القبلي الذي تحدّه حدود الدم والقرابة والجوار إلى فكرة المجتمع الذي لا يحدّه شيء من تلك الحدود، وإنّما تحدّه القاعدة الفكريّة للإسلام. فأيّ أداة إنتاج حوّلت اولئك الذين كانت تضيق عقولهم عن فكرة المجتمع القومي، فجعلتهم أئمّة المجتمع العالمي والدعاة إليه في فترة قصيرة؟!
وتحدّى الإسلام المنطق التاريخي المزعوم مرّةً ثالثة، فيما أقام من علاقات التوزيع التي لم يكن من الممكن- في حساب الاقتصاد الاشتراكي- أن تقوم في مجتمع قبل أن يبلغ درجة من المرحلة الصناعيّة والآليّة في الإنتاج.
فقلّص من دائرة الملكيّة الخاصّة، وضيّق من مجالها، وهذّب من مفهومها، ووضع لها الحدود والقيود، وفرض عليها كفالة الفقراء، ووضع إلى جانبها الضمانات الكافية لحفظ التوازن والعدالة في التوزيع، وسبق بذلك الشروط المادّية- في رأي الماركسيّة- لهذا النوع من العلاقات. فبينما يقول القرن الثامن عشر:
«لا يجهلنَّ سوى الأبله أنّ الطبقات الدنيا يجب أن تظلّ فقيرة، وإلّا فإنّها لن تكون مجتهدة» «1». ويقول القرن التاسع عشر: «ليس للذي يولد في عالم تمّ امتلاكه حقّ في الغذاء إذا ما تعذّر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله أو أهله، فهو طفيلي على المجتمع لا لزوم لوجوده؛ إذ ليس له على خوان الطبيعة مكان، والطبيعة تأمره بالذهاب، ولا تتوانى في تنفيذ أمرها هذا» «2»، بينما يقول العالم هذا حتّى بعد مجيء الإسلام بقرون يقول الإسلام- على ما جاء في الحديث-