كما لا نتصوّر من الحجر أن يتراجع تفادياً للاصطدام بجدار يعترض طريقه، فهو يفقد كلّ لون من القوّة الإيجابيّة والقدرة على تكيّفات جديدة، ولهذا لم يكن له نصيب من الحرّية الطبيعيّة.
وأمّا الكائن الحيّ فليس موقفه تجاه البيئة والظروف سلبيّاً، أو مضغوطاً في اتّجاه محدّد لا محيد عنه، بل يمتلك قدرة وطاقة إيجابيّة على تكييف نفسه، وابتداع اسلوب جديد إذا لم يكن الاسلوب الاعتيادي ملائماً لظروفه، وهذه الطاقة الإيجابيّة هي التي توحي إلينا بمفهوم الحرّية الطبيعيّة؛ نظراً إلى أنّ الطبيعة وضعت بين يدي الكائن الحيّ بدائل متعدّدة ليأخذ في كلّ حال بأكثرها ملاءمة لظروفه الخاصّة. فالنبات الذي يعتبر في الدرجة الدنيا من سلّم الكائنات الحيّة نجد لديه تلك الطاقة أو الحرّية في مستوى منخفض وبدائي، فإنّ بعض النباتات تغيّر من اتّجاهها لمجرّد اقترابها من حاجز يصلح لمنعها عن الامتداد في ذلك الاتّجاه المعيّن، وتسارع إلى تكييف نفسها واتّجاهها تكييفاً جديداً.
وإذا أخذنا الحيوان بوصفه درجة ثانية في سلّم الحياة وجدنا عنده تلك الحرّية والطاقة في نطاق أوسع وعلى مستوى أعلى، إذ وضعت الطبيعة بين يديه بدائل كثيرة ينتخب منها في كلّ حين ما هو أكثر ملاءمة لشهواته وميوله. فبينما كنّا نجد الحجر لا يحيد عن اتّجاهه المعيّن حين نرمي به، والنبات لا يحيد عن اتّجاهه إلّا في حدود معيّنة نرى الحيوان قادراً على اتّخاذ مختلف الاتّجاهات في كلّ حين، فالحقل الذي سمحت له الطبيعة بممارسة نشاطه الحيوي فيه أوسع وأغنى بالبدائل من الحقل الذي ظفر به النبات.
وتبلغ الحرّية الطبيعيّة ذروتها في الإنسان؛ لأنّ الحقل العملي الذي منحته الطبيعة له أوسع الحقول جميعاً. فبينما كانت الميول والشهوات الغريزيّة في الحيوان حدوداً نهائيّة للحقل الذي يعمل فيه فلا يستعمل الحيوان حرّيته إلّافي