والحرية نفسها كانت أداة لانفتاح الإنسان الاوروبي على مفهوم الصراع؛ لأ نّها جعلت لكلّ إنسان أن ينطلق دون أن يحدّه في انطلاقه شيء سوى وجود الشخص الآخر الذي يقف في الطرف المقابل كمحدّد له، فكان كلّ فرد يشكّل بوجوده النفي لحرية الشخص الآخر.
وهكذا نشأت فكرة الصراع في ذهن الإنسان الاوروبي، وقد عبّرت هذه الفكرة عن نفسها على الصعيد الفلسفي، كما رأينا في سائر الأفكار الأساسية التي كوّنت مزاج الحضارة الغربية الحديثة. عبّرت هذه الفكرة- فكرة الصراع- عن نفسها في الأفكار العلمية والفلسفية عن تنازع البقاء كقانون طبيعي بين الأحياء، أو عن حتمية الصراع الطبقي داخل المجتمع، أو عن الديالكتيك وتفسير الكون على أساس الاطروحة ونقيضها والمركّب الناجم عن الصراع بين النقيضين. إنّ كلّ هذه الاتجاهات ذات الطابع العلمي أو الفلسفي هي قبل كلّ شيء تعبير عن واقع نفسي عام وشعور حادّ لدى إنسان الحضارة الحديثة بالصراع.
وكان للصراع أثره الكبير في توجيه الاقتصاد الاوروبي الحديث وما واكبه من عمليات التنمية، سواء ما اتّخذ منه الشكل الفردي وعبّر عن نفسه بالتنافس المحموم وغير المحدود بين المؤسسات والمشاريع الرأسمالية الشخصية في ظلّ الاقتصاد الحرّ التي كانت تنمو وتنمّي الثروة الكلية من خلال صراعها وتنافسها على البقاء، أو ما اتخذ منه الشكل الطبقي وعبّر عن نفسه بتجمّعات ثورية تتسلّم مقاليد الإنتاج في البلاد، وتحرّك كلّ الطاقات لصالح التنمية الاقتصادية.
هذه هي أخلاقية الاقتصاد الاوروبي، وعلى هذه الأرضية استطاع هذا الاقتصاد أن يبدأ حركته ويحقّق نموّه ويسجّل مكاسبه الضخمة.
وهذه الأخلاقية تختلف عن الأخلاقية التي تعيشها الامّة داخل العالم