الرأسماليّة التجارية من الأشكال الاقتصاديّة الراقية، وإذا كانت الامبراطوريّة الرومانيّة قد جرّبت هذا الشكل- كما يدلّ عليه تاريخها- فقد وصلت إذن إلى درجة عالية نسبيّاً في تركيبها الاقتصادي، وابتعدت شوطاً كبيراً عن ألوان الاقتصاد البدائي المغلق (اقتصاديّات البيت)، وكان من أثر ذلك أنّ التجارة راجت في مختلف الدول التي عاصرتها الامبراطوريّة الرومانيّة بفضل تعبيد الطرق وتأمينها وحماية الملاحة، فضلًا عن التجارة الداخليّة التي ازدهرت داخل أرجاء الامبراطوريّة بين إيطاليا والولايات وبين الولايات بعضها مع بعض، حتّى أنّ الأواني الفخاريّة الإيطاليّة كانت تكتسح السوق العالميّة، من بريطانيا شمالًا إلى شواطئ البحر الأسود شرقاً. ودبابيس الأمن التي تميّزت بها (أوكيسا) انتشرت عن طريق التجارة في جميع الولايات، ووصلت إلى شواطئ البحر الأسود. والمصابيح التي كانت المصانع الإيطاليّة تنتجها بكمّيات هائلة عثر عليها في كلّ جزء من أجزاء الامبراطوريّة.
والسؤال الذي يواجهنا على ضوء هذه الحقائق هو: لماذا لم تواصل الأوضاع الاقتصادية والرأسماليّة التجارية نموّها وتكاملها ما دامت الحركة التكامليّة قانوناً حتميّاً للأوضاع الاقتصاديّة والإنتاجيّة؟ ولماذا لم تتطوّر الرأسماليّة التجاريّة إلى رأسماليّة صناعيّة، كما حدث في منتصف القرن الثامن عشر ما دامت رؤوس الأموال الكبيرة متوفّرة عند التجّار، وجماهير الأحرار التي كانت تزداد بؤساً وحاجة حاضرة لتلبية طلبات الرأسماليّة الصناعيّة والاستجابة لمتطلّباتها؟ إنّ هذا يعني أنّ الشروط المادّية للشكل الاجتماعي الأعلى كانت موجودة، فلو كانت الشروط المادّية كافية وحدها لتطوير الواقع الاجتماعي، وكانت قوى الإنتاج في تطوّرها تخلق دائماً الأوضاع التي تنطلق في ضمنها وتنمو لوجب أن تنمو الرأسماليّة في التاريخ القديم، وأن تستجيب لمتطلّبات