الاستصحاب. وكلّما كانت الخصوصية مقوِّمةً للمعروض كان انتفاؤها موجباً لتعذّر جريان الاستصحاب؛ لأنّ المشكوك حينئذٍ مباين للمتيقّن.
ومن هنا يبرز السؤال التالي: كيف نستطيع أن نميِّز بين الحيثية التعليلية والحيثية التقييدية المقوِّمة لمعروض الحكم؟
فقد يقال: بأنّ مرجع ذلك هو الدليل الشرعي؛ لأنّ أخذ الحيثية في الحكم ونحو هذا الأخذ تحت سلطان الشارع، فالدليل الشرعي هو الكاشف عن ذلك، فإذا ورد بلسانٍ «الماء إذا تغيّر تنجَّس» فهمنا أنّ التغيّر اتّخذ حيثيةً تعليلية. وإذا ورد بلسان «الماء المتغيّر متنجِّس» فهمنا أنّ التغيّر حيثية تقييدية، وعلى وزان ذلك «قلِّد العالم» أو «قلِّده إن كان عالماً»، وهكذا.
والصحيح: أنّ أخذ الحيثية في الحكم بيد الشارع، وكذلك نحو أخذها في عالم الجعل، إذ في عالم الجعل يستحضر المولى مفاهيم معيّنة، كمفهوم الماء والتغيّر والنجاسة، فبإمكانه أن يجعل التغيّر قيداً للماء، وبإمكانه أن يجعله شرطاً في ثبوت النجاسة تبعاً لكيفية تنظيمه لهذه المفاهيم في عالم الجعل، غير أنّ استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية لا يجري بلحاظ عالم الجعل، بل بلحاظ عالم المجعول، فينظر إلى الحكم بما هو صفة للأمر الخارجي لكي يكون له حدوث وبقاء، كما تقدم[1].
وعليه فالمعروض محدّد واقعاً، وما هو داخل فيه وما هو خارج عنه لا يتّبع في دخوله وخروجه نحو أخذه في عالم الجعل، بل مدى قابليته للاتّصاف بالحكم خارجاً، فالتغير- مثلًا- لا يتّصف بالنجاسة والقذارة في الخارج، بل الذي يوصف بذلك ذات الماء، والتغيّر سبب الاتّصاف، والتقليد وأخذ الفتوى يكون من العالم
[1] تحت عنوان: الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني.