وأخذ الإنسان الغربي عِبر تلك الثورات الفكرية المتعاقبة ينظر الى الكون بمنظارٍ جديد، والى التراث الفكري الذي خلَّفته له الإنسانية منذ فجر التأريخ نظرات شكٍّ وارتياب؛ لأنّه بدأ يحسّ أن عالم «كوبرنيكوس» الذي برهن على أن الأرض ليست إلّاأحد توابع الشمس يختلف كلّ الاختلاف عن العالم التقليدي الذي كان يحدّثنا عنه «بطلميوس»، وأنّ الطبيعة التي بدأت تكشف عن أسرارها لجاليليو وأمثاله من العلماء شيء جديد بالنسبة الى الصورة التي ورثها عن القدِّيسين والمفكّرين السابقين، أمثال القدّيس «توماس الاكويني» و «دانتي» وغيرهما. وهكذا ألقى فجأةً وبيدٍ مرعوبةٍ كلّ بديهيّاته بالأمس، وأخذ يحاول الخلاص من الإطار الذي عاش فيه آلاف السنين.
ولم يقف الشكّ في موجه الثوري الصاعد عند حدٍّ، بل اكتسح في ثورته كلّ القيم والمفاهيم التي تواضعت عليها الإنسانية، وكانت تعتمد عليها في ضبط السلوك وتنظيم الصلات. فما دام الكون الجديد يناقض المفهوم القديم عن العالم، وما دام الإنسان ينظر الى واقعه ومحيطه من زاوية العلم لا الأساطير فلابدّ أن يعاد النظر من جديدٍ في المفهوم الديني الذي يحدِّد صلة الإنسان والكون بما وراء الغيب، وبالتالي في كلّ الأهداف والمثل التي عاشها الإنسان قبل أن تتبلور نظرته الجديدة الى نفسه وكونه.
وعلى هذا الأساس واجه دين الإنسان الغربي محنة الشكّ الحديث، وهو لا يرتكز إلّاعلى رصيدٍ عاطفيٍّ بدأ ينضب بسببٍ من طغيان الكنيسة وجبروتها.
فكان من الطبيعي أيضاً أن تذوب في أعقاب هذه الهزيمة كلّ القواعد الخلقية والقيم والمثل التي كانت تحدِّد من سلوك الإنسان، وتخفِّف من غلوائه؛ لأنّ الأخلاق مرتبطة بالدين في حياة الإنسانية كلّها، فإذا فقد رصيدها الديني الذي يمدّها بالقيمة الحقيقية ويربطها بعالم الغيب وعالم الجزاء أصبحت خواءً وضريبة