الدقيق الذي ندرسه في هذه الفصول، أعني الظرف الذي تلا وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وتقرّرت فيه المسألة الأساسيّة في تأريخ الإسلام على شكلٍ لا يتغيّر، وهي نوع السلطة التي ينبغي أن تتولّى امور المسلمين.
[تقييم التأريخ الإسلامي في عصره الأوّل:]
كلّنا نودّ أن يكون التأريخ الإسلامي في عصره الأوّل الزاهر طاهراً كلّ الطهر، بريئاً ممّا يخالط الحياة الإنسانية من مضاعفات الشرّ ومزالق الهوى، فقد كان عصراً مشعّاً بالمثاليات الرفيعة، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تأريخ هذا الكوكب على الإطلاق، وارتقت فيه العقيدة الإلهيّة إلى حيث لم ترتقِ إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم، فقد عكس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم روحه في روح ذلك العصر، فتأثّر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم، بل فنى الصفوة من المحمّديّين في هذا الطابع، فلم يكن لهم اتّجاه إلّانحو المُبدِع الأعظم الذي ظهرت وتأ لّقت منه أنوار الوجود وإليه تسير، كما كان استاذهم الأكبر الذي فنى الوجود المنبسط كلّه بين عينيه ساعة هبوط الرسالة السماويّة عليه. فلم يكن يرى شيئاً ولا يسمع صوتاً سوى الصوت الإلهيّ المنبعث من كلّ صوبٍ وحَدب، وفي كلّ جهةٍ من جهات الوجود، وناحيةٍ من نواحي الكون يعلن تقليده الشارة الكبرى.
إنّ عصراً تُلغى فيه قيمة الفوارق المادّية على الإطلاق، ويستوي فيه الحاكم والمحكوم في نظر القانون ومجالات تنفيذه، ويجعل مدار القيمة المعنوية والكرامة المحترمة فيه تقوى اللَّه[1] التي هي تطهير روحي، وصيانة للضمير،
[1] إشارة إلى قوله تعالى:« إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» الحجرات: 13