وأمّا إذا جئنا للتأريخ لا لنسجّل واقع الأمر خيراً كان أو شرّاً، ولا لنحبس دراستنا في حدودٍ من مناهج البحث العلميالخالص، ولالنجمع الاحتمالات والتقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها على محكّ البحث ما يسقط ويبقى ما يليق بالتقدير والملاحظة، بل لنستلهم عواطفنا وموروثاتنا ونستمدّ من وحيها الأخّاذ تأريخ أجيالنا السابقة، فليس ذلك تاريخاً لُاولئك الأشخاص الذين عاشوا على وجه الأرض يوماً ما، وكانوا بشراً من البشر تتنازعهم ضروب شتّى منالشعور والإحساس، وتختلج في ضمائرهم ألوان مختلفة من نوازع الخير ونزعات الشرّ، بل هو ترجمة لأشخاصٍ عاشوا في ذهننا وطارت بهم نفوسنا إلى الآفاق العالية من الخيال.
فإذا كنت تريد أن تكون حرّاً في تفكيرك ومؤرّخاً لدنيا الناس لاروائيّاً يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب فضع عواطفك جانباً، أو إذا شئت فاملأ بها شعاب نفسك فهي ملكك لا ينازعك فيها أحد، واستثنِ تفكيرك الذي به تعالج البحث فإنّه لم يعد ملكك بعد أن اضطلعت بمسؤوليّة التأريخ، وأخذت على نفسك أن تكون أميناً؛ ليأتي البحث مستوفياً لشروطه قائماً على اسُسٍ صحيحةٍ من التفكير والاستنتاج.
كثيرة جدّاً هذه الأسباب التي تحول بين نُقّاد التأريخ وبين حرّيتهم في ما ينقدون، وقد اعتاد المؤرّخون أو أكثر المؤرّخين- بتعبيرٍ أصحّ- أن يقتصروا على ضروبٍ معيّنةٍ من هندسة الحياة التي يؤرّخونها، وأن يصوغوا التأريخ صياغةً قد يظهر فيها الجمال الفنّي أحياناً حينما يتوسّع الباحث في انطباعاته عن الموضوع، ولكنّها صورة باهتة في أكثر الأحايين، ليس فيها ما في دنيا الناس التي تصوّرهم من معاني الحياة وشؤونها المتدفّقة بألوان من النشاط والحركة والعمل، وسوف تجد في ما يأتي أمثلةً بمقدار ما يتّسع له موضوعنا من الزمن