وارتفاع بالنفس إلى آفاقٍ من المثالية الرفيعة، ويحرَّم في عرفه احترام الغني لأنّه غني، وإهانة الفقير لأنّه فقير، ولا يفرّق فيه بين الأشخاص إلّابمقدار الطاقة الإنتاجية «لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ»[1]. ويتسارع فيه إلى الجهاد لصالح النوع الإنساني، الذي معناه إلغاء مذهب السعادة الشخصيّة في هذه الدنيا، وإخراجها عن حساب الأعمال، أقول: إنّ العصر الذي تجتمع له كلّ هذه المفاخر لهو خليق بالتقديس والتبجيل والإعجاب والتقدير، ولكن ماذا أراني دفعت إلى التوسّع في أمرٍ لم أكن اريد أن اطيل فيه؟ وليس لي أن افرّط في جنب الموضوع الذي احاوله بالتوسّع في أمرٍ آخر، ولكنّها الحماسة لذلك العصر هي التي دفعتني إلى ذلك، فهو بلا ريبٍ زين العصور في الروحانية والاستقامة. أنا أفهم هذا جيّداً، واوافق عليه متحمّساً، ولكنّي لا أفهم أن يمنع عن التعمّق في الدرس العلمي أو التمحيص التأريخي لموضوعٍ كموضوعات الساعة التي نتكلّم عنها من مراحل ذلك الزمن، أو يحظر علينا أن نبدأ البحث في مسألة فدك على أساس أنّ أحد الخصمين كان مخطئاً في موقفه بحسب موازين الشريعة ومقاييسها، أو أن نلاحظ أنّ قصّة الخلافة وفكرة السقيفة لم تكن مرتجلةً ولا وليدةَ يومها إذا دلّنا على ذلك سير الحوادث حينذاك وطبيعة الظروف المحيطة بها.
وأكبر الظنّ أنّ كثيراً منّا ذهب في تعليل مناقب ذلك العصر ومآثره مذهباً جعله يعتقد أنّ رجالات الزمن الخالي، وبتعبيرٍ أوضح تحديداً أنّ أبا بكر وعمر وأضرابهما الذينَ هم من موجّهي الحياة العامّة يومئذٍ لا يمكن أن يتعرّضوا لنقدٍ أو محاكمة، لأنّهم بُناة ذلك العصر، والواضعون لحياته خطوطها الذهبيّة، فتأريخهم تأريخ ذلك العصر، وتجريدهم عن شيءٍ من مناقبهم تجريد لذلك العصر عن
[1] البقرة: 286