البداية، وأملها الكبير في النهاية- يخسر أخيراً خلافة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وتقوَّض معنويّاته النوريّة التي شهدت لها السماء والأرض جميعاً، وتُسقط سوابقه الفذّة عن الاعتبار ببعض المقاييس التي تمّ اصطلاحها في تلك الأحايين.
وهنا بكت بكاءاً شقيّاً ما شاء اللَّه لها أن تبكي، ولم يكن بكاءاً بمعناه الذي يظهر على الأسارير ويخيّم على المظاهر، بل كان لوعة الضمير، وارتياع النفس، وانتفاضة الحسرات في أعماق القلب، وختمت طوافها الأليم هذا بعَبرتين نضّتا من مقلتيها.
ثمّ لم تطل وقفتها، بل اندفعت كالشرارة الملتهبة- وحولها صويحباتها- حتّى وصلت إلى ميدان الصراع، فوقفت وقفتها الخالدة، وأثارت حربها التي استعملت فيها ما يمكن مباشرته للمرأة في الإسلام، وكادت ثورتها البِكر أن تلتهم الخلافة لولا أن عاكسها شذوذ الظرف، وتناثرت أمامها العقبات.
تلك هي الحوراء الصدّيقة، فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، ريحانة النبوّة، ومثال العصمة، وهالة النور المشعّة، وبقيّة الرسول بين المسلمين- في طريقها إلى المسجد- وقد خسرت ابوّةً هي أزهى الابوّات في تأريخ الإنسان، وأفيضها حناناً، وأكثرها إشفاقاً، وأوفرها بركة.
وهذه كارثة من شأنها أن تذيق المصاب بها مرارة الموت، أو أن تظهر له الموت حلواً شهيّاً وأمَلًا نيّراً.
وهكذا كانت الزهراء حينما لحق أبوها بالرفيق الأعلى، وطارت روحه الفرد إلى جنان ربّها راضيةً مرضيّة.
ثمّ لم تقف الحوادث المرّة عند هذا الحدّ الرهيب، بل عَرَّضَت الزهراء لخَطْبٍ آخر قد لا يقلّ تأثيراً في نفسها الطَهور، وإيقاداً لحزنها، وإذكاءاً لأساها عن الفاجعة الاولى كثيراً، وهو خسارة المجد الذي سجّلته السماء لبيت النبوّة