التفسير بالمعاني الآنفة الذكر جميعاً؛ فإنّ النصف الثاني من الحديث وهو «ما تركناه صدقة» يجوز أن يكون مستقلًاّ في كيانه المعنوي، مركّباً من مبتدأ وخبر، ويمكن أن يكون تكملة لجملة لا نورّث. ففي الحالة الاولى يقبل الحديث التفسير بالمعنى الأوّل والثالث من المعاني السابقة؛ لأنّ جملة «ما تركناه صدقة» قد يراد بها أنّ التركة لا تنتقل من ملك الميّت إلى آلهِ وإنّما تصبح صدقة بعد موته، وقد يقصد بها بيان المعنى الثالث، وهو أنّ جميع التركة صدقة ولم يكن يملك منها الميّت شيئاً ليورّث، كما إذا أشار الإنسانُ إلى أموالِه وقال: إنّ هذه الأموال ليست ملكاً لي وإنّما هي صدقاتٌ أتولّاها.
والحديث على تقدير أن تكون له وحدة معنوية يدلّ على المعنى الثاني؛ أي أنّ الصدقات التي تصدّق بها الميّت في حياته لا تورّث دون سائر تركته، ويكون الموصول مفعولًا لا مبتدأً. ويتّضح من الصيغة على هذا التقدير نفس ما يفهم منها إذا انعكس الترتيب فيها وجاءت هكذا: ما تركناه صدقة لا نورّثه، فكما يُؤتى بهذه الجملة لبيان أنّ الصدقات لا تورث، لا أنّ كل أقسام التركة صدقة، كذلك يصحّ أن يقصدَ نفس ذلك المعنى من صيغة الحديث بترتيبها المأثور، فتكون دليلًا على عدم انتقال الصدقات إلى الورثة لا على عدم تشريع الإرث إطلاقاً. وقد يكون من حقّ سيبويه علينا أن نشيرَ إلى أنّ قواعد النحو ترفع كلمة صدقة على تقدير استقلال «ما تركناه صدقة» معنوياً وتنصبها على التقدير الآخر. ومن الواضح أنّ الحركات الاعرابية لا تلحظ في التكلّم عادةً بالنسبة إلى الحرف الأخير من حروف الجملة للوقوف عليه المجوّز لتسكينه.
11- وإذن فقد وضعنا بين يدي الحديث عدّة من المعاني في سبيل البحث عن مدلوله. وليس من الإسراف في القول أن نقرّر أنّ تفسير الحديث بما يدلّ على أنّ أموال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تكون صدقة بعد موته لا يرجح على المعنيين