ما دام عقله وكلّ معانيه الإنسانية التي تميّزه عن مملكة الحيوان معتقلةً ومجمّدةً عن العمل.
ونحن نعلم أنّ الشيء الأساسيّ الذي يميّز حرّية الإنسان عن حرّية الحيوان بشكلٍ عامٍّ: أنّهما وإن كانا يتصرّفان بإرادتهما غير أنّ إرادة الحيوان مسخَّرة دائماً لشهواته وإيحاءاتها الغريزية، وأمّا الإنسان فقد زُوِّد بالقدرة التي تمكِّنه من السيطرة على شهواته وتحكيم منطقه العقلي فيها. فسرّ حرّيته- بوصفه إنساناً إذن- يكمن في هذه القدرة. فنحن إذا جمّدناها فيه واكتفينا بمنحه الحرّية الظاهرية في سلوكه العملي ووفّرنا له بذلك كلّ إمكانات ومغريات الاستجابة لشهواته- كما صنعت الحضارات الغربية الحديثة- فقد قضينا بالتدريج على حرّيته الإنسانية، في مقابل شهوات الحيوان الكامنة في أعماقه، وجعلنا منه أداة تنفيذٍ لتلك الشهوات، حتى إذا التفت إلى نفسه في أثناء الطريق وجد نفسه محكوماً لا حاكماً، ومغلوباً على أمره وإرادته.
وعلى العكس من ذلك إذا بدأنا بتلك القدرة التي يكمن فيها سرّ الحرّية الإنسانية فأنميناها وغذّيناها وأنشأنا الإنسان إنشاءً إنسانياً لا حيوانياً، وجعلناه يعي أنّ رسالته في الحياة أرفع من هذا المصير الحيواني المبتذل الذي تسوقه اليه تلك الشهوات، وأنّ مثله الأعلى الذي خُلِق للسعي في سبيله أسمى من هذه الغايات التافهة والمكاسب الرخيصة التي يحصل عليها في لذاذاته المادية.
أقول: إذا صنعنا ذلك كلّه حتى جعلنا الإنسان يتحرّر من عبودية شهواته، وينعتق من سلطانها الآسِر، ويمتلك إرادته فسوف يخلق الإنسان الحرّ القادر على أن يقول: لا، أو نعم، دون أن تَكممَ فاهُ أو تَغلَّ يديه هذه الشهوة الموقوتة أو تلك اللذّة المبتذلة.