والإسلام يختلف عن الديمقراطية الرأسمالية في هذا الموقف؛ نتيجةً لاختلافه عنها في طبيعة القاعدة الفكرية التي يتبنّاها، وهي: التوحيد وربط الكون بربٍّ واحد. فهو يسمح للفكر الإنساني أن ينطلق ويعلن عن نفسه، ما لم يتمرّد على قاعدته الفكرية التي هي الأساس الحقيقي لتوفير الحرّية للإنسان في نظر الإسلام، ومنحه شخصيّته الحرّة الكريمة التي لا تذوب أمام الشهوات، ولا تركع بين يدي الأصنام. فكلّ من الحضارة الغربية والإسلام يسمح بالحرّية الفكرية بالدرجة التي لا ينجم عنها خطر على القاعدة الأساسية، وبالتالي على الحرّية نفسها.
ومن المعطيات الثورية للحرّية الفكرية في الإسلام: الحرب التي شنّها على التقليد وجمود الفكر، والاستسلام العقلي للأساطير، أو لآراء الآخرين دون وعيٍ وتمحيص. والهدف الذي يرمي اليه الإسلام من ذلك: تكوين العقل الاستدلالي أو البرهاني عند الإنسان، فلا يكفي لتكوين التفكير الحرّ لدى الإنسان أن يقال له:
«فكِّر كما يحلو لك»، كما صنعت الحضارة الغربية؛ لأنّ هذا التوسّع في الحرّية سوف يكون على حسابها، ويؤدّي في كثيرٍ من الأحايين الى ألوانٍ من العبودية الفكرية تتمثّل في التقليد والتعصّب وتقديس الخرافات، بل لابدّ في رأي الإسلام لإنشاء الفكر الحرّ أن ينشئ في الإنسان العقل الاستدلالي أو البرهاني الذي لا يتقبّل فكرةً دون تمحيص، ولا يؤمن بعقيدةٍ ما لم تحصل على برهان؛ ليكون هذا العقل الواعي ضماناً للحرّية الفكرية وعاصماً للإنسان من التفريط بها بدافعٍ من تقليدٍ أو تعصبٍ أو خرافة. وفي الواقع أنّ هذا جزء من معركة الإسلام لتحرير المحتوى الداخلي للإنسان، فهو كما حرّر الإرادة الإنسانية من عبودية الشهوات- كما عرفنا سابقاً- كذلك حرّر الوعي الإنساني من عبودية التقليد والتعصّب والخرافة. وبهذا وذاك فقط أصبح الإنسان حرّاً في تفكيره، وحرّاً في إرادته.