وأ مّا النقطة الثانية فهي من القرائن على التفسير الذي اخترناه؛ لأنّ الخوف على الدين والعلم من أبناء العمّ لا معنى له؛ لأنّ اللطف الإلهي لا يترك الناس سُدىً بلا حجّة بالغة. فمعالم الدين وكلمة السماء محفوظة بالرعاية الإلهية، والنبوّة مخصوصة أبداً بالأقلّين من نوابغ البشر لا يُخشى عليها من السطو والنهب. وإذن فماذا كان يحسب زكريّا ربّه صانعاً لو لم يمنّ عليه بيحيى؟ أكان يحتمل أن يكلّف برسالته مواليه- أعني بني عمومته- مع عدم كفاءتهم للقيام بواجب الرسالة الإلهية وعدم جدارتهم بهذا الشرف؟! أو كان يرى أنّ اللَّه تعالى يهمل أمر خلقه ليكون لهم الحجّة عليه؟ ليس هذا ولا ذاك ممّا يجوّزه نبيّ، وإنّما خاف زكريّا من بني أعمامه على أمواله فطلب من اللَّه ولداً رضيّاً يرثها. ولا جناح عليه في ذلك؛ إذ يحتمل أن تكون رغبته في صرف أمواله عن بني عمومته بسبب أ نّها لو آلت إليهم لوضعوها في غير مواضعها، وأنفقوها في المعاصي وألوان الفساد؛ لِما كان يلوح عليهم من علامات الشرّ وأمارات السوء حتى قيل: إنّهم شرار بني إسرائيل.
وقد حاول ابن أبي الحديد أن يصوّر وجهاً لخوف زكريّا من الموالي على الدين من ناحيتين:
الاولى: عن طريق اصول الشيعة، فذكر أنّ دعوى امتناع مثل هذا الخوف على النبيّ غير مستقيم على مذهب الشيعة؛ لأنّ المكلّفين قد حُرموا بغَيبة الإمام عندهم ألطافاً كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود وصلاة الجمعة والأعياد، وهم يقولون في ذلك إنّ اللوم على المكلّفين؛ لأنّهم قد حَرموا أنفسهم اللطف؛ فهلّا جاز أن يخاف زكريّا عليه السلام من تبديل الدين وتغييره وإفساد الأحكام الشرعية؛ لأنّه إنّما يجب على اللَّه التبليغ بالرسول إلى المكلّفين، فإذا أفسدوا هم الأديان وبدّلوها