4- وعلى ذلك يتّضح أنّ كلمة الإرث في الآية الكريمة قد اعطيت حقّها من الاستعمال واريد بها إرث النبوّة؛ لأنّ الشيء إنّما يصحّ أن يقع جواباً للدعاء فيما إذا كان ملازماً للمطلوب ومتحقّقاً عند وجوده دائماً أو في أكثر الأحايين. ووراثة النبوّة ليست ملازِمة لوجود الذرّية إطلاقاً، بل قد لا تتّفق في مئات الملايين من الأشخاص، لما يلزم في هذا المقام من كفاءة فذّة وكمال عظيم، فلا يجوز أن توضع النبوّة بجلالها الفريد جواباً لسؤال اللَّه تعالى ذريّة طيّبة؛ لأنّ النسبة بين الذريّة الإنسانية وبين الجديرين بتحمّل أعباء الرسالة السماوية هي النسبة بين الآحاد والملايين. وأ مّا وراثة المال فيمكن أن تكون جواباً لدعاء زكريّا عليه السلام؛ لأنّ الولد يبقى بعد أبيه على الأكثر، فوراثته للمال ممّا يترتّب على وجوده غالباً، وأضف إلى ذلك أنّ زكريّا نفسه لم يكن يرى النبوّة ملازمة لذرّيته بل ولا ما دونها من المراتب الروحية؛ ولذا سأل ربّه بعد ذلك بأن يجعل ولده رضيّاً.
5- ولنترك هذا لندرس كلمة «الإرث» في الآية على ضوء تقدير الفعل صفة لا جواباً للدعاء. وفي رأيي أنّ هذا التقدير لا يضطرّنا إلى الخروج بنتيجة جديدة، بل الإرث في كلمة «يَرِثُنِي» هو إرث المال في الحالين معاً بلا ريب.
والذي يعيّن هذا المعنى للكلمة على التقدير الجديد أمران:
الأوّل: أنّ زكريّا عليه السلام لو كان قد طلب من ربّه ولداً وارثاً لنبوّته لما طلب بعد ذلك أن يكون رضيّاً؛ لأنّه دخل في دعوته الاولى ما هو أرفع من الرضا.
الثاني: أنّ إغفال الإرث بالمرّة في قصّة زكريّا الواردة في سورة آل عمران إن لم يدلّ على أنّ الإرث خارج عن حدود الدعاء، فهو في الأقل يوضّح أنّ معنى الإرث في الموضع القرآني الآخر للقصّة إرث المال لا إرث النبوّة؛ لأنّ زكريّا لو كان قد سأل ربّه أمرين: أحدهما أن يكون ولده طيّباً رضيّاً، والآخر أن يرث نبوّته، لما اقتصر القرآن الكريم على ذلك الوصف الأوّل الذي طلبه زكريّا عليه السلام،