كشف القرآن عن سنن التاريخ:
من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني الذي أوضحناه، وهو تأكيد القرآن على أنّ الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى. وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحاً عظيماً للقرآن الكريم؛ لأنّنا- في حدود ما نعلم- [نجد أنّ] القرآن الكريم أول كتاب عرفه الإنسان أكّد على هذا المفهوم وكشف عنه وأصرّ عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم، قاوم النظرة العفوية أو النظرة الغيبية الاستسلامية لتفسير الأحداث، الإنسان الاعتيادي كان يفسّر أحداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الأحداث، يفسّرها على أساس الصدفة تارة، وعلى أساس القضاء والقدر والاستسلام لأمر اللَّه سبحانه وتعالى تارة اخرى، القران الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقاوم هذه النظرة الاستسلامية ونبّه العقل البشري إلى أنّ هذه الساحة لها سننها ولها قوانينها، وأ نّه لكي تستطيع أن تكون إنساناً فاعلًا مؤثراً لابدّ لك أن تكتشف هذه السنن، لابدّ لك أن تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع أن تتحكم فيها، وإلّا تحكّمت هي فيك وأنت مغمض العينين. افتح عينيك على هذه القوانين، افتح عينيك على هذه السنن لكي تكون أنت المتحكّم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكّمة فيك.
هذا الفتح القرآني الجليل هو الذي مهّد إلى تنبّه الفكر البشري بعد ذلك بقرون، إلى أن تجري محاولات لفهم التاريخ فهماً علمياً. بعد نزول القرآن بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات، بدأت على أيدي المسلمين أنفسهم، فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه، ثم بعد ذلك بأربعة قرون- على أقل تقدير- اتّجه الفكر الاوربي في بدايات ما يسمّى بعصر النهضة، بدأ لكي يجسّد هذا المفهوم، هذا المفهوم الذي ضيّعه المسلمون، والذي لم يستطع