کتابخانه
138

تنشأ من الانطباعات التي نتلقّاها من العالم الخارجي، وإذا فحصنا انطباعاتنا عن العالم الخارجي لا نجد فيها انطباعاً عن العليّة بالمعنى الذي يشتمل على الضرورة وحتميّة الارتباط بين الحادثتين؛ لأنّنا مهما تلفّتنا حولنا متّجهين بأنظارنا إلى الأشياء الخارجيّة، باحثين فيما نسمّيه من تلك الأشياء أسباباً، لا نجد- في أيّة حالة من الحالات- ما يكشف لنا عن رابطة ضروريّة بين السبب ومسبّبه، إنّنا لن نجد أبداً صفة تنطبع بها حواسّنا وتكون هي الصفة التي تربط المعلول بعلّته ربطاً يجعل ذلك المعلول نتيجة محتومةً لعلّته، إنّ كلّ ما نراه في العالم الخارجي هو أنّ النتيجة تتبع سببها فعلًا: فنرى- مثلًا- أنّ كرة البليارد المتحرّكة إذا ما صدمت كرةً اخرى كانت ساكنة فإنّ هذه الثانية تتحرّك كذلك، إنّ الذي ينطبع على حواسّنا الظاهرة هو: كرة اولى تتحرّك، وكرة ثانية تعقبها في الحركة[1].

وهكذا ينتهي (هيوم) إلى رفض التسليم بعلاقة العليّة كحقيقة موضوعيّة، إذ لا سبيل إلى إثباتها عقليّاً ولا تجريبيّاً، واتجه على هذا الأساس إلى تفسيرها على أساس ذاتي نفسي. فبدلًا عن أن تكون الضرورة علاقة قائمة بين أكل الخبز والشبع، يتصوّرها (هيوم) علاقة قائمة في الذهن بين فكرة أكل الخبز وفكرة الشبع على ما سوف نتحدّث عنه بعد لحظات.

وتأكيد (هيوم) على عدم وجود انطباع حسّي لدينا عن العليّة بمعنى الضرورة والحتميّة يثير مشكلتين:

الاولى: كيف إذن يمكن أن نتصوّر العليّة بمعنى الضرورة والحتميّة، إذا كان التصوّر- أيّ تصوّر بسيط بوصفه فكرة- لا بدّ أن يكون نسخةً لانطباع معيّن؟

 

[1] ديفد هيوم، للدكتور زكي نجيب محمود: 85- 86

137

تساوي نسبتها إلى الوجود والعدم، جاز أن توجد في حالة عدم وجود العلّة أيضاً مع تساوي نسبتها إلى الوجود والعدم.
وهكذا نلاحظ بوضوح: أنّ البرهان الذي استخدم لإثبات الفقرة الاولى القائلة: «إنّ الماهيّة الممكنة لا توجد بدون وجوب»، قد افترض- بصورة مسبقة- مبدأ العليّة وحاجة الشي‏ء الممكن إلى العلّة، فليس من المعقول منطقيّاً أن ندخل تلك الفقرة كجزء في الحجّة التي يستدلّ بها على مبدأ العليّة.
وأنا أرى: أنّ الأفضل للفلسفة العقليّة التي تؤمن بأنّ مبدأ العليّة قضيّة عقليّة قبليّة، أن تتّجه إلى القول بأ نّه قضيّة أوليّة في العقل بدلًا عن الاتجاه إلى استنباطه من قضايا عقليّة مسبقة، وبذلك يصبح من المستحيل الاستدلال عليه بمناهج الاستنباط العقلي، ما دام قضيّة أوليّة.
ومن الطبيعي أن يعارض (هيوم) هذا الاتجاه؛ لأنّه يرفض التسليم بأيّ قضيّة عقليّة قبليّة من هذا القبيل. وسوف نوضّح في القسم الأخير من هذا الكتاب- إن شاء اللَّه تعالى-: أنّ من الضروري الاعتقاد بقضايا عقليّة قبليّة في المعرفة البشريّة.
ونحن لا نختلف مع هيوم في معارضته لقبول مبدأ العليّة بوصفه قضيّة عقليّة قبليّة فقط، بل نختلف معه أيضاً في اعتقاده بأنّ مبدأ العليّة لا يمكن الاستدلال عليه بالتجربة.

3- علاقة العليّة والتجربة:

إذ أكّد (هيوم) أنّ علاقات العليّة لا يمكن استنتاجها عقليّاً، أكّد في الوقت نفسه عدم إمكان الاستدلال عليها بالتجربة، وعجز الخبرة الحسيّة عن إثباتها؛ لأنّ كلّ معلوماتنا عن العالم الخارجي التي نستمدّها من التجربة والخبرة الحسيّة

136

ب- وكلّ ماهيّة ممكنة لا يمكن أن تجب إلّابسبب خارجي؛ لأنّ معنى كونها ممكنة أنّ نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية، ومعنى الوجوب تَرَجُّح نسبتها إلى الوجود. فما لم يفترض وجود شي‏ء آخر تستمدّ منه الوجوب تظلّ نسبة التساوي إلى الوجود والعدم ثابتة.

ونستخلص من هذين الأمرين: أ نّه ما دام الوجود مساوقاً للوجوب، وما دام وجوب الماهيّة الممكنة لا يمكن أن ينشأ إلّامن سبب خارجي، فمن الطبيعي أ نّها لا توجد إلّابسبب خارجي‏[1].

وهذه الحجّة تشتمل على نفس الخلل المنطقي الذي اكتشفناه في الحجّة السابقة؛ لأنّنا حين نأخذ الفقرة الاولى في هذه الحجّة- وهي الفقرة القائلة: «إنّ الماهيّة الممكنة لا توجد ما لم يجب وجودها»- ونتبع طريقة الفيلسوف الذي ساق تلك الحجّة في إثبات محتوى هذه الفقرة، نجد أ نّه قد برهن على هذه الفقرة بمبدأ العليّة، بينما هو يستخدمها هنا كجزء من الحجّة التي يستدلّ بها على هذا المبدأ.

ولتوضيح ذلك نتساءل: لماذا لا توجد الماهيّة الممكنة ما لم يجب وجودها؟

والفيلسوف العقلي يجيب على هذا السؤال عادةً: بأنّ الماهيّة الممكنة إذا وجدت علّتها فإمّا أن تكتسب منها الوجوب، وإمّا أن لا تكتسب ورغم ذلك توجد، والأوّل هو المطلوب، والثاني يعني: أنّ الماهيّة الممكنة من الجائز أن توجد رغم عدم وجوبها وتساوي نسبتها إلى الوجود والعدم، وهذا يؤدّي إلى إمكان وجود الماهيّة بدون علّة رأساً، إذ لو جاز أن توجد في حالة وجود العلّة مع‏

 

[1] اصول فلسفه و روش رئاليسم للسيّد الطباطبائي 3: 180

135
محاولة للاستدلال العقلي على مبدأ العليّة:

وهناك محاولتان تذكران عادةً في بحوث الفلاسفة العقليّين الأرسطيّين، للاستدلال العقلي على مبدأ العليّة:

المحاولة الاولى: إنّ كلّ حادثة ممكنة الوجود، ومعنى (الإمكان) أنّ الوجود والعدم بالنسبة إليها متساويان، فلكي توجد الحادثة لا بدّ أن يترجّح وجودها على عدمها، ولا بدّ في رجحان الوجود على العدم من مرجّح، لاستحالة ترجّح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجّح‏[1]. وهذا المرجّح هو العلّة. إذن فكلّ حادثة لها علّة.

وهذه الحجّة إذا حلّلناها بعمق نجد أ نّها لا تزيد على الاستدلال على مبدأ العليّة بنفسه؛ لأنّها تفترض أنّ الحادثة لكي توجد لا بدّ أن يكتسب وجودها رجحاناً، وهذا الرجحان بحاجة إلى مرجّح. ومن الواضح أنّ القضيّة القائلة: «إنّ الرجحان بحاجة إلى مرجّح» هي نفسها تعبير عن مبدأ العليّة الذي نحاول الاستدلال عليه، إذ ما لم يثبت مبدأ العليّة مسبقاً يكون بالإمكان افتراض الرجحان بدون مرجّح، أي بدون سبب. وهكذا نجد أنّ القضيّة التي يرتكز عليها الاستدلال على مبدأ العليّة تفترض مسبقاً مبدأ العليّة. فالاستدلال إذن خاطئ من الناحية المنطقيّة.

المحاولة الثانية، وصيغتها كما يلي:

أ- كلّ ماهيّة ممكنة بذاتها لا توجد ما لم يجب وجودها، فالوجود إذن مساوق للوجوب‏.

 

[1] الأسفار الأربعة، لصدر الدين الشيرازي 2: 131

134

العلاقات الخاصّة بين الحرارة والتمدّد، أو بين الغليان والتبخّر، يدركها العقل بصورة قبليّة.
فالفلاسفة الأرسطيّون العقليّون يرون أنّ معرفة الإنسان بأنّ لتمدّد الحديد سبباً، أو لتبخّر الماء سبباً، هي معرفة عقليّة بطبيعتها، وليست مستمدّة من الحسّ والتجربة.
وأمّا معرفة الإنسان بأنّ سبب التمدّد في الحديد هو الحرارة، وأنّ درجة معيّنة من الحرارة سبب للتبخّر، فليست معرفة عقليّة. ولا يحاول هؤلاء الأرسطيّون أن يسبغوا عليها طابعاً عقليّاً قبليّاً، بل هي مستمدّة من الخبرة والتجربة بالطريقة التي شرحنا بها وجهة نظر المنطق الأرسطي في القسم السابق من هذا الكتاب.
فكلّ ما يستهدفه (هيوم): الاستدلال على أنّ المعرفة بتلك العلاقات الخاصّة ليست عقليّة. وهذا لا يتعارض مع موقف الفلسفة العقليّة الأرسطيّة من مبدأ العليّة.
وبعد التمييز بين مبدأ العليّة والعلاقات الخاصّة القائمة بين كلّ علّة ومعلولها، نأخذ مبدأ العليّة لندرس طابعه العقلي:
إنّنا مع (هيوم) في تأكيده على أنّ مبدأ العليّة لا يمكن استنباطه من مبدأ عدم التناقض، إذ لا يوجد أيّ تناقض منطقي في افتراض حادثة بدون سبب؛ لأنّ مفهوم الحادثة لا يستبطن ذاتيّاً فكرة السبب، وعلى هذا الأساس يتوجّب على الاتجاه العقلي في الفلسفة الذي يؤمن بعقليّة مبدأ العليّة وقبليّته، أن يوضّح طريقة تفسيره عقليّاً لمبدأ العليّة، بدون أن يتورّط في محاولة استنباطه من مبدأ عدم التناقض مباشرة.

133

تصوّر بداية شي‏ء دون ردّه إلى علّة[1]. وهذا يعني: أنّ الاستدلال العقلي على إثبات مبدأ العليّة عن طريق مبدأ [عدم‏] التناقض، غير ممكن.

ويواصل (هيوم) تأكيده على أنّ علاقة العليّة في أيّة حالة من حالاتها لا يوجد لدينا علم قبلي مستقلّ عن الخبرة الحسيّة بها، وإنّما نعلم بها على أساس الخبرة والتجربة، فلو لم تكن العلّة قد مرّت في خبرتنا مقترنة بالمعلول ورأيناها لأوّل مرّة، فلا يمكننا أن ندرك عقليّاً أ نّها علّة لذلك المعلول الخاصّ.

وهنا يتحدّث (هيوم) عن (آدم‏[2]) فيقول: «إذا افترضنا كمال قدراته العقليّة ما كان ليستدلّ من سيولة الماء وشفافيّته أ نّه يختنق لو غرق فيه، أو يستدلّ من الضوء والدف‏ء اللذين ينبعثان من النار أ نّه يحترق لو وثب فيها»[3].

ونلاحظ في موقف (هيوم) هذا الحاجة إلى التمييز بصورة جدّيّة بين مبدأ العليّة وعلاقات العليّة القائمة بين الأشياء، ونريد بمبدأ العليّة المبدأ القائل: إنّ لكلّ حادثة سبباً، ونريد بعلاقات العليّة العلاقة القائمة بين الحرارة والتمدّد، أو بين الغليان والتبخّر، أو بين أكل الخبز والشبع. فإنّ الاتجاه العقلي على الصعيد الفلسفي الذي يسبغ على العليّة طابعاً عقليّاً قبليّاً يريد بذلك: أنّ مبدأ العليّة من القضايا التي يدركها العقل بصورة قبليّة مستقلّة عن التجربة، ولا يدّعي أنّ تلك

[1] تأريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم: 198

[2] المراد به آدم أبو البشر بوصفه نموذجاً عمّن لم يمرّ بأيّ تجربةٍ سابقة( لجنة التحقيق)

[3] ديفد هيوم، للدكتور زكي نجيب محمود: 70 بتصرّف

132

المقياس الذي نرجع إليه في تقييم اعتقاداتنا، والتمييز بين ما هو جدير منها بثقتنا عن غيره.
ونحن الآن بصدد الموقف الأوّل؛ لأنّنا نريد اكتشاف الفرق الأساس بين التصوّر والاعتقاد. وفي حدود ما يتّصل بهذه النقطة لا بدّ من تفسير المميّز الأساس للاعتقاد تفسيراً ينطبق على كلّ اعتقاد بقطع النظر عن تقييمه وصوابه وخطئه، فاعتقاد ذلك الشخص بجنيّة تتعقّبه لا يختلف عن أيّ اعتقادٍ علميّ في الخصائص التي تميّز الاعتقاد عن التصوّر، رغم أ نّه لم يستمدّ حيويّته من أيّ انطباع.
وهكذا يجب أن نميّز بين موقفنا كمفسّرين للاعتقاد على أساس ما تستمدّه الفكرة من حيويّة الانطباع، وموقفنا كمقيّمين للاعتقاد حين نقرّر- مثلًا- أ نّه لا يجوز لإنسان أن يدّعي وجود كائن فعلي دون استناد إلى الخبرة الحسّية، فالاعتقاد بوجود الجنيّة وإن كان اعتقاداً لا مبرّر له على أساس المقياس المعطى في الموقف الثاني، ولكنّه اعتقاد على أيّ حال، ولكي ينجح التفسير المعطى للاعتقاد في الموقف الأوّل لا بدّ أن يكون منطبقاً عليه.
إنّ كثيراً من الاعتقادات لا يرتبط بأيّ انطباع بالشكل الذي تصوّره هيوم، وهذا يعني أنّ الفكرة ليست بحاجة- لكي تكون اعتقاداً- أن تكون نسخة لأحد الانطباعات، أو مرتبطة- بعلاقة العليّة- مع نسخة منه، لكي تستمدّ منه حيويّته وقوّته.

2- علاقة العليّة والعقل:

يؤكّد (دافيد هيوم) على أنّ علاقة العليّة لا تنشأ عن التفكير العقلي الخالص، ولا يمكن استنباط مبدأ العليّة من مبدأ عدم التناقض، إذ لا تناقض في‏

131

اخرى هي بدورها نسخة للانطباع. وهذا يعني أنّ أيّ فكرة لا تكون نسخة مباشرة لانطباع، ولا مرتبطة بنسخة مباشرة من هذا القبيل ليست اعتقاداً. وهذه النتيجة تناقض الواقع؛ لأنّنا جميعاً نعلم أنّ عدداً كبيراً من الاعتقادات يوجد في الذهن البشري دون أن يكون نسخة لانطباع، أو مرتبطاً بنسخة لانطباع بعلاقة العلّة والمعلول. فكيف يستطيع هيوم مثلًا، أن يفسّر اعتقاد إنسانٍ ما بوجود جنّية تتعقّبه أينما ذهب، رغم أنّ فكرته عن هذه الجنّية ليست نسخة لانطباع، ولا مرتبطة مع نسخة لانطباع بعلاقة العلّة والمعلول؟

وقد يقول (هيوم): إنّ الإنسان إذا كان إزاء قضيّة تتّصل بالوجود الفعلي الواقعي، فلا بدّ من اتّصالها على وجه من الوجوه بانطباعاتنا الحسيّة، ولا مناص من الرجوع إلى خبراتنا الحسيّة، على نحو مّا إذا أردنا إثبات الصدق لقضيّة تنبئ عن أحد الموجودات الفعليّة الواقعيّة. ولا يجوز لأحد أن يتحدّث عن كائن مّا كالجنيّة في المثال الذي افترضناه ويزعم لها الوجود الفعلي دون أن يكون في مستطاعه إسناد حديثه هذا إلى خبرة حسيّة من بصر أو سمع أو لمس … إلى آخرها. فلا يصحّ أن يدّعي إنسان الوجود الفعلي لكائن معيّن، ثمّ يعجز عن هدايتنا إلى الحاسّة التي جاءه العلم به عن طريقها[1].

وفي الردّ على هذا القول يجب أن نميّز بين موقفين: أحدهما موقف تفسيريّ للاعتقاد، وهو الموقف الذي نحاول فيه إبراز الفرق الأساس بين التصوّر والاعتقاد- أيّ اعتقاد- بقطع النظر عن خطئه وصوابه؛ لأنّ الاعتقاد سواءً كان مصيباً أو مخطئاً يختلف اختلافاً جوهريّاً عن التصوّر.

والموقف الآخر هو الموقف التقييمي للاعتقاد الذي يراد فيه الكشف عن‏

 

[1] ديفد هيوم، للدكتور زكي نجيب محمود: 115

130

البصري. فالاعتقاد باستقامة العصا هو نفسه ليس إلّافكرة قد حظت بدرجة من الحيويّة والقوّة نتيجة ارتباطها بانطباع من الانطباعات الحسيّة.
وهذا القول لا علاقة له بالحجّة التي قدّمناها؛ لأنّه لا يؤثّر في الموقف شيئاً، سوى أ نّه يبرز إلى جانب فكرة انكسار العصا المرتبطة بالانطباع البصري فكرة اخرى عن استقامة العصا مرتبطة بالانطباع اللمسي، وكلتا الفكرتين تتمتّعان بالحيويّة والقوّة نتيجة ارتباطهما بالانطباع. فلو كانت كلّ فكرة تصبح اعتقاداً بمجرّد اكتسابها لتلك الحيويّة والقوّة، لكانت كلّ من فكرتي الانكسار والاستقامة اعتقاداً. ولمّا كانت إحدى الفكرتين فقط هي التي تمثّل اعتقادنا الفعلي في تلك الحالة، دون الفكرة الاخرى، نستطيع أن نعرف من ذلك أنّ الفكرة لكي تكون اعتقاداً، لا يكفي أن تحصل على الحيويّة والقوّة من الانطباع الحسّي، بل لا بدّ من عنصر آخر- غير الحيويّة والقوّة- يجعل الفكرة اعتقاداً.
وحيث أ نّا عرفنا سابقاً أنّ العنصر الذي يميّز الاعتقاد عن التصوّر لا يدخل في محتوى الفكرة، وإنّما يتّصل بطريقة ارتسامها في الذهن، فلا بدّ إذن من التسليم بأنّ العنصر الذي يرتفع بالفكرة من مستوى التصوّر إلى مستوى الاعتقاد نوع من الفعّاليّة الذهنيّة التي تسبغ على التصوّر طابع الاعتقاد، وهذه الفعاليّة هي حكم معيّن من النفس بثبوت القضيّة التي تعلّق بها التصوّر، فأيّ قضيّة نفكّر فيها من قبيل: «الشمس طالعة»، «فتح المسلمون الأندلس» إذا كنّا نتصوّرها فحسب فليست اعتقاداً، وإذا تصوّرناها وحكمت النفس بثبوتها أصبحت اعتقاداً.
ثانياً: إنّ (هيوم) حين فسّر الاعتقاد على أساس ما تزخر به الفكرة من حيويّة، افترض أنّ هذه الحيويّة تستمدّها الفكرة من الانطباع مباشرة إذا كانت نسخة له، أو بصورة غير مباشرة إذا كانت مرتبطة- بعلاقة العلّة والمعلول- بفكرة