کتابخانه
147

اقترانهما صدفة، وأن يكون (ب) نتيجة لسبب آخر غير منظور- (ت) مثلًا- ولكن حينما يتكرّر اقتران (أ) و (ب) يضعف احتمال تكرّر الصدفة في كلّ تلك الأمثلة. فالتكرار في الأمثلة عامل رئيس في الدليل الاستقرائي، لا على أساس دوره السيكولوجي في تكوين العادة الذهنيّة، بل على أساس دوره الموضوعي في تخفيض قيمة احتمال الصدفة النسبيّة، وفقاً لنظريّة الاحتمال، كما سيأتي شرحه- إن شاء اللَّه تعالى-.
3- نفرض أنّ إنساناً حاول أن يجرّب أثر استعمال مادّة معيّنة على المصابين بالصداع، فلاحظ أنّ استعمال تلك المادّة في أشخاص كثيرين قد اقترن بظاهرة معيّنة، فسوف يستنتج أنّ تلك المادّة سبب لهذه الظاهرة. ومردّ هذا الاستنتاج- في رأي هيوم- إلى العادة الذهنيّة.
ولنفرض أنّ الممارس للتجربة قد اكتشف بعد ذلك: أنّ شريكه- الذي قدّم إليه مرضاه المصابين بالصداع الذين أجرى تجاربه عليهم- كان يتعمّد اختيار المريض الذي تتوفّر فيه الظروف التي تؤدّي إلى وجود تلك الظاهرة، لكي يضلّل الممارس للتجربة في اكتشافه، فمن الطبيعي أن يزول اعتقاد الممارس بالعليّة بعد هذا الاكتشاف، فلا يتوقّع وجود الظاهرة في شخص بسبب استعماله لتلك المادّة.
وهذا من السهل تفسيره على أساس الاعتراف بالواقع الموضوعي للعليّة، وكونها علاقة ضرورة بين الحادثتين في العالم الخارجي؛ لأنّ من الطبيعي على هذا الأساس أن يكون لاكتشاف الممارس عناصر اخرى كانت مجهولة خلال التجربة، أثر في سير الاستدلال الاستقرائي. وأمّا إذا كانت العليّة مجرّد عادة ذهنية تنشأ من التكرار، فكيف يمكن أن تزول العادة الذهنيّة التي نشأت عن التكرار بين (أ) و (ب)، لمجرّد أنّ الإنسان الذي اكتسب هذه العادة قد اكتشف‏

146

وهكذا نستخلص بوضوح: أنّ آراء (هيوم) لا تصلح لتفسير الدليل الاستقرائي؛ لأنّ الدليل الاستقرائي لا يزوّدنا فقط بقضايا فعليّة، بل يزوّدنا أيضاً بقضايا شرطيّة.

2- إنّ (هيوم) يتمسّك بدليل لإثبات مفهومه الفلسفي عن الاستدلال الاستقرائي، وعن العليّة بوصفها عادة ذهنيّة للانتقال من فكرة إلى فكرة، فيقول:

لِمَ نسوق من ألف مثال استدلالًا لا نسوقه من مثال واحد فحسب، مع أنّ هذا المثال ليس مختلفاً في وجه من وجوهه عن تلك الأمثلة؟

ويجيب على هذا السؤال: أنّ تفسير ذلك: أ نّنا بينما نجد أنّ النتائج التي يسوقها العقل من تأمّل دائرة فحسب، هي نفس النتائج التي يكوّنها من استعراض جميع الدوائر، نلاحظ أ نّنا لا نستطيع من رؤية جسم واحد يتحرّك بدفع آخر أن نستدلّ على أنّ كلّ جسم يتحرّك من دفع مماثل؛ وذلك لأنّنا يلزم في الحالة الثانية أن نلاحظ تكرار الاقتران بين هذين الموضوعين، ومن ثمّ نتهيّأ بالعادة إلى الاستدلال من أحدهما على الآخر. وعلى هذا فجميع الاستدلالات من التجربة هي إذن آثار للعادة، لا للبرهنة العقليّة[1].

ويتلخّص هذا الدليل في أنّ التمييز في مجال الاستدلال على العليّة بين مثال واحد وأمثلة متعدّدة، لا يمكن أن يفسّر إلّاعلى أساس ما يكوّنه تكرار الأمثلة من عادة ذهنيّة، يعجز المثال الواحد عن إيجادها.

ولكنّ الحقيقة أنّ تفسير ذلك ميسور بدون الأخذ بفرضيّات (هيوم) عن العليّة والدليل الاستقرائي؛ لأنّ المثال الواحد لا ينفي في العادة احتمال الصدفة النسبيّة. فإذا لاحظنا في مرّة واحدة أنّ (أ) ترتّب عليه (ب) أمكن أن يكون‏

 

[1] فلسفة هيوم، للدكتور محمّد فتحي الشنيطي: 182

145

الواضح أنّ (هيوم) لا يسلّم بوجود علاقة من هذا القبيل؛ لأنّه يرى أنّ العليّة علاقة بين الفكرتين لا بين الموضوعين، وإن كانت علاقة بين الفكرتين فهذا يعني: أ نّا حين نقرّر القضيّة القائلة: «إذا تعرّض هذا الحديد للحرارة تمدّد» نعني بذلك: أ نّا إذا وجدت في ذهننا فكرة الحرارة فسوف ننتقل من هذه الفكرة ذهنيّاً إلى فكرة التمدّد، فكلّما نتحدّث عن قضيّة شرطيّة من هذا القبيل، فنحن نتحدّث عن العادة الذهنيّة التي هي التجسيد الحقيقي لعلاقة العلّة والمعلول في رأي هيوم.
وإذا تأمّلنا في مغزى ذلك نجد أنّ هذا يعني أ نّا نتحدّث عن المستقبل، ولكن لا عن مستقبل الطبيعة في العالم الخارجي، بل عن مستقبل ذهننا، ونحكم بأنّ عادة النزوع عن فكرة العلّة إلى المعلول سوف تظلّ في المستقبل كما هي الآن. إذ لو لم نفترض ذلك فليس بإمكاننا القول بأنّ فكرة الحرارة إذا حدثت في ذهننا فسوف ننتقل منها إلى فكرة التمدّد. وهكذا نجد في النهاية أ نّنا تورّطنا- عند تفسير القضيّة الشرطيّة- في ما رفضه هيوم منذ البدء، وهو افتراض مشابهة المستقبل للحاضر والماضي.
وبكلمة اخرى: إنّ مشابهة المستقبل للحاضر والماضي إذا كان من حقّنا افتراضها والتحدّث على أساسها، فبإمكاننا إذن أن نستعمل هذا الافتراض بالنسبة إلى الواقع الموضوعي، ونؤكّد موضوعيّاً القضيّة الشرطيّة القائلة: «إذا- أو كلّما- تعرّض الحديد للحرارة تمدّد» بدلًا عن أن نفسّر ذلك على أساس العادة والنزوع الذهني، وإذا لم يوجد مبرّر موضوعي لافتراض مشابهة المستقبل للحاضر والماضي- كما يرى هيوم- فليس بالإمكان إذن أن نتحدّث عن مستقبل الذهن أيضاً، ولا أن نفترض أنّ العادة الذهنيّة للانتقال من فكرة إلى فكرة سوف تظلّ في ذهني إلى دقيقة اخرى. وهذا يعني العجز عن تفسير أيّ قضيّة شرطيّة من قبيل:
«إذا حدثت الحرارة في هذا الحديد فسوف يتمدّد».

144

تتمدّد، واعتقادنا بهذه القضيّة الشرطيّة لا يتوقّف على تعرّض تلك القطعة للحرارة فعلًا. وموقف (هيوم) الذي استعرضناه يمكن أن يفسّر الاعتقاد بالقضيّة الاولى؛ لأنّ فكرتنا عن التمدّد- حينما ندرك فعلًا تعرّض الحديد للحرارة- مرتبطة بفكرة حيّة فتستمدّ منها الحيويّة والقوّة، ولكنّه لا يفسّر الاعتقاد بالقضيّة الثانية؛ لأنّنا نتساءل: ما هي الفكرة التي تعتبر اعتقاداً في هذه القضيّة؟ هل هي فكرتنا عن تمدّد الحديد، أو هي فكرتنا عن عليّة الحرارة لتمدّد الحديد؟ ولا يمكن لهيوم أن يجيب بإحدى هاتين الإجابتين.
أمّا الإجابة الاولى فلأنّ فكرتنا عن تمدّد الحديد لا يمكن أن تكون اعتقاداً؛ لأنّها لكي تكون اعتقاداً لا بدّ أن تستمدّ الحيويّة والقوّة من الفكرة الاخرى المرتبطة بها في الذهن، وهي فكرة الحرارة، وفكرة الحرارة نفسها ليس فيها حيويّة وقوّة؛ لأنّها لم تنشأ عن انطباع حسّي.
ففرق كبير بين ما إذا أحسسنا فعلًا بحرارة الحديد فقرّرنا أنّ هذا الحديد قد تمدّد فعلًا، وما إذا لم نكن قد أحسسنا بشي‏ء من ذلك وقرّرنا أنّ هذا الحديد إذا تعرّض للحرارة فسوف يتمدّد. ففي الحالة الاولى تكون فكرتنا عن العلّة- أي عن حرارة الحديد- فكرة حيّة؛ لأنّها على وفق انطباع حسّي معاش، فتستمدّ فكرة المعلول الحيويّة والقوّة من فكرة العلّة، وتصبح بذلك اعتقاداً في رأي (هيوم). وأمّا في الحالة الثانية فليست فكرة العلّة حيّة، بل هي مجرّد تصوّر مفترض، فلا يمكن أن تستمدّ فكرة المعلول منها الحيويّة والقوّة، وبالتالي لا يمكن أن تكون فكرتنا عن المعلول في القضيّة الشرطيّة اعتقاداً.
وليس بإمكان (هيوم) أن يختار الإجابة الثانية ويفترض أنّ الاعتقاد الذي نملكه في حالة إصدار قضيّة شرطيّة هو الاعتقاد بعليّة الحرارة للتمدّد. إذ ما هي هذه العليّة؟ إن كانت علاقةً موضوعيّة بين الحادثتين في العالم الخارجي، فمن‏

143
5- الاعتقاد بالعليّة:

عرفنا في استعراضنا العامّ لموقف (هيوم) أ نّه يرى أنّ الاعتقاد يعبّر عن درجةٍ معيّنةٍ من الحيويّة والقوّة في الفكرة، تستمدّها من الانطباع مباشرة، أو عن طريق فكرة اخرى إذا كان بين الفكرتين علاقة العلّة والمعلول. فنحن حين نرى العلّة تكون فكرتنا عن العلّة اعتقاداً، لما تزخر به من الحيويّة نتيجة لمطابقتها لانطباع حسّي، ونظراً إلى علاقة العلّة والمعلول سوف ينتقل الذهن من فكرة العلّة إلى فكرة المعلول، وتكتسب فكرة المعلول على هذا الأساس الحيويّة والقوّة من فكرة العلّة، وترتفع لأجل ذلك من مستوى التصوّر إلى مستوى الاعتقاد.
وعلى هذا الأساس نعرف أنّ أيّ فكرة ترافق انطباعاً موافقاً لها فهي اعتقاد.
وإذا لم يوجد إلى جانبها انطباع موافق لها، فلكي تكون اعتقاداً لا بدّ من توفّر أمرين:
أحدهما: أن توجد علاقة بينها وبين فكرة اخرى تجعل للذهن نزوعاً واعتياداً على الانتقال من إحداهما إلى الاخرى، وهذه العادة تنشأ من تكرّر اقتران حادثتين في الخبرة الحسيّة للإنسان، بدرجة تجعل الذهن ينتقل من فكرة إحداهما إلى فكرة الحادثة الاخرى.
والآخر: أن تكون تلك الفكرة الاخرى مشتملة على القوّة والحيويّة التي تجعلها اعتقاداً، لكي تفيض من حيويّتها على الفكرة المرتبطة بها.
هذا هو موقف (هيوم) في تفسير الاعتقاد بالعليّة. ونلاحظ عليه ما يلي:
1- إنّ الاعتقاد بالعليّة يزوّدنا بقضيّتين، إحداهما: قضيّة فعليّة فحواها: إنّ الحديد قد تمدّد فعلًا، وذلك فيما إذا أدركنا بالفعل تعرّضه للحرارة. والاخرى:
قضيّة شرطيّة فحواها: إنّ هذه القطعة من الحديد إذا تعرّضت للحرارة فسوف‏

142

جعل هيوم يعتقد بأنّ فكرة العليّة وليدة انطباع، ويفتّش عن هذا الانطباع. وإذا لاحظنا مبدأ الأسبقيّة نفسه وجدنا أ نّه يقوم- في رأي (هيوم)- على أساس الاستقراء؛ لأنّه استطاع أن يتبيّن خلال دراسته للانطباعات والأفكار: أنّ الأفكار البسيطة مماثلة للانطباعات البسيطة، وتابعة لها. ورغم أنّ فكرة العليّة لم تكن من تلك الأفكار التي شملها الاستقراء، خرج (هيوم) من استقرائه بتعميم يشمل سائر الأفكار، بما فيها فكرة العليّة. فاستطاع أن يطبّقه على فكرة العليّة نفسها.
وهكذا نعرف أنّ فرضيّة انطباع تنشأ منه فكرة العليّة مستدلّة عند هيوم بتعميم من التعميمات الاستقرائيّة. فإذا كان الاستدلال الاستقرائي خلواً من أيّ قيمة موضوعيّة، فمن الطبيعي أن يكون رأي (هيوم) في تفسير نشوء فكرة العليّة كذلك أيضاً. بل إنّ الاستقراء الذي اعتمده (هيوم) لا يملك الشروط التي يجب توفّرها عادة في الاستقراءات الناجحة؛ لأنّ التعميم في الاستقراء الناجح لا يمتدّ إلى الأفراد التي يوجد بينها وبين الأفراد المستقرأة فارق نوعي محدّد. فإذا استقرأنا- مثلًا- كلّ أنواع المعادن باستثناء الذهب، فوجدناها تتمدّد بالحرارة، لم يكن بالإمكان تعميم النتيجة للذهب أيضاً؛ لوجود فارق نوعي محدّد بين الذهب والمعادن التي فحصت: من حديد، ورصاص، ونحاس.
وإنّما تعمّم النتيجة على القطعات الاخرى من الحديد، والرصاص، والنحاس؛ لأ نّنا لا نلاحظ بينها وبين ما فحصنا من قطعات أيّ فارق نوعي محدّد. وفكرة العليّة من قبيل الذهب في هذا المثال: فهب أ نّا فحصنا كلّ أنواع الأفكار الاخرى فوجدنا أ نّها مصاحبة لانطباع وتابعة له، فإنّ هذا لا يبرّر أن نعمّم النتيجة على فكرة العليّة نفسها، ما دامت فكرة العليّة تختلف نوعيّاً عن الأفكار الاخرى.

141

للعليّة على أساس أمرين مجتمعين:
الأوّل: معطيات الخبرة الحسيّة التي تبدو فيها الحادثتان مقترنتين مرّات عديدة.
والآخر: الاحتمال العقلي المسبق للواقع الموضوعي للعليّة نتيجةً لعجز التفكير العقلي المحض عن الإثبات والنفي.
فالخبرة+ الاحتمال المسبق/ الدليل على الواقع الموضوعي للعليّة. وهذا ما أترك شرحه للقسم المقبل من الكتاب.

4- تصوّر العليّة:

إنّ كلّ فكرة بسيطة في رأي (هيوم) هي نسخة من انطباع وفقاً لمبدئه القائل بأسبقيّة الانطباعات على الأفكار، وعلى هذا الأساس كان (هيوم) يفتّش عن الانطباع الذي أمدّنا بفكرة العليّة بما تشتمل عليه من ضرورة وحتميّة، وحينما لم يجد في انطباعات الحسّ ما تكون فكرة العليّة نسخة منه، افترض انطباعاً آخر لكي يفسّر على أساسه وجود فكرة العليّة في ذهننا، وهذا الانطباع الآخر قد افترضه (هيوم) من انطباعات الأفكار لا من انطباعات الحسّ، إذ زعم أنّ تكرار اقتران الحادثتين في الخبرة الحسيّة يثير في الذهن انطباعاً معيّناً، وهو تهيّؤ الذهن واستعداده لكي ينتقل من إدراك إحدى الحادثتين إلى الاخرى، وفكرة العليّة هي نسخة هذا الانطباع.
ونحن حين ندرس تفسير (هيوم) لتصوّر العليّة، نلاحظ أنّ ذلك التهيّؤ الذهني للانتقال الذي افترضه انطباعاً من انطباعات الأفكار، قد اكتشفه في الحقيقة بطريقة الاستنباط من مبدئه القائل بأسبقيّة الانطباعات على الأفكار؛ لأنّ ذلك المبدأ الذي يرفض قبول الفكرة إلّابوصفها نسخة لانطباع، هو الذي‏

140

عليها إيجاباً ولا سلباً[1].

وهنا نريد أن نعرف: هل بالإمكان أن نجعل من التجربة مرجّحاً للاعتقاد بهذه القضيّة وسبباً لتدعيم احتمال صدقها؟

ويبدو أنّ (هيوم) لا يرى ذلك ممكناً؛ لأنّه لا يتصوّر: أنّ بالإمكان الاستناد إلى التجربة والخبرة الحسيّة لإثبات شي‏ء إلّاإذا كان ذلك الشي‏ء قد ظهر مباشرة في خبرتنا الحسيّة وتمثّل في انطباعنا الحسّي، وحيث أنّ خبرتنا الحسيّة بالحرارة والتمدّد لم تنطبع عليها صفة الضرورة، ولم يتمثّل فيها إلّاتعاقب الحادثتين، فلا سبيل إلى الاستدلال على الواقع الموضوعي للعليّة عن طريق التجربة والخبرة الحسيّة.

ولكنّنا سوف نشرح في القسم الثالث من الكتاب- إن شاء اللَّه- كيف يمكن على ضوء النظريّة الجديدة لهذا الكتاب أن ندعم احتمال أنّ العليّة واقع موضوعي، ونثبت هذه القضيّة بالتجربة والخبرة الحسيّة، دون أن نضيف إلى التجربة في مجال الاستدلال على تلك القضيّة أيّ إضافة اخرى لا يقرّها (هيوم)، وبتعبير آخر: إنّ البحث المقبل سوف يكشف عن إقامة دليل الواقع الموضوعي‏

 

[1] أتجاوز في هذه النقطة عن المنطق الوضعي الذي يرفض بطبيعته قبول تلك القضيّة، حتّى بوصفها قضيّة محتملة؛ لأنّ أيّ قضيّة لا يمكن أن تشير إلى شي‏ء يقع في خبرتنا الحسيّة لا معنى لها في المنطق الوضعي، وهي بالتالي ليست قضيّة من الناحية المنطقيّة، وإن كانت بشكل قضيّة من الناحية النحويّة. وعلى هذا الأساس تكون القضيّة التي تتحدّث عن الضرورة بين التمدّد والحديد فارغة لا معنى لها.

وسوف ندرس النقاط الرئيسيّة في المنطق الوضعي ونناقشها في القسم الأخير من هذا الكتاب، ونتعرّف على مواضع الخطأ في المقاييس التي وضعها المنطق الوضعي للقضيّة من الناحية المنطقيّة( المؤلّف قدس سره)

139

الثانية: هب أ نّا تصوّرنا العليّة، فكيف يتاح لنا أن نعتقد بها بوصفها علاقة موضوعيّة قائمة بين الحادثتين، دون أن يكون لدينا أيّ سند على ذلك من خبرتنا الحسيّة التي تكشف عن تتابع الحادثتين ولا تكشف عن علاقة الضرورة بينهما؟
وقد تخلّص (هيوم) من المشكلة الاولى باكتشاف المصدر الذي يموّننا بفكرة العليّة وتصوّرها في انطباع من انطباعات الأفكار بدلًا عن انطباعات الإحساس، كما شرحنا سابقاً.
واعترف (هيوم) بالمشكلة الثانية، وعلى أساسها قرّر بأنّ علاقة العليّة ذاتيّة لا موضوعيّة، أي أ نّها تقوم بين الفكرتين في ذهننا ولا مبرّر لافتراض قيامها بين الحادثتين في الخارج.
ونحن إذا افترضنا الأخذ بطريقة (هيوم) في التخلّص من المشكلة الاولى، فسوف نحصل على اعتراف (هيوم) بأنّ بإمكاننا أن نتصوّر العليّة وأن نتساءل- على أقلّ تقدير-: هل لهذه العليّة واقع موضوعي أو لا؟ صحيح أ نّا لم نحصل على انطباع حسّي لصفة العليّة في العالم الخارجي، وإنّما حصلنا في رأي هيوم على صفة العليّة عن طريق انطباع من انطباعات الأفكار، ولكنّ هذا لا يمنعنا- بعد أن حصلنا على فكرة العليّة- أن نضيفها إلى العالم الخارجي متسائلين عمّا إذا كان لفكرة العليّة هذه واقع موضوعي في العالم الخارجي.
ولنفترض مع (هيوم) أنّ التفكير العقلي المحض لا يمكنه أن يجيب على هذا السؤال بالإيجاب، ولكنّه في نفس الوقت لا يمكن أن يبرهن على النفي، وهذا يعني: أنّ القضيّة التي نتساءل عنها: «هل لفكرة العليّة بين الحرارة والتمدّد واقع موضوعي؟» قضيّة مشكوكة- أي محتملة- لأنّ العقل لا يمكن أن يستدل‏