کتابخانه
165

يستلزم أن يتّصف ذلك الشي‏ء بتلك الصفة» واستنتجنا من ذلك: أنّ النفط يتبخّر في درجة مائة، كانت النتيجة خطأ؛ لأنّ القضيّة الثانية من القضايا الثلاث التي ساهمت في التوليد خطأ.
وإذا قلنا: «إنّ خالداً إنسان، وبعض الناس علماء، وكلّما كان شي‏ء عنصراً من فئة، وكانت بعض أفراد تلك الفئة تتّصف بصفة فإنّ ذلك يستلزم أنّ ذلك الشي‏ء يتّصف بتلك الصفة»، واستنتجنا من ذلك: أنّ خالداً عالم، كانت النتيجة خطأ؛ لأنّ القضيّة الثالثة خطأ، حيث أنّ الشكل الأوّل من القياس لا يستلزم النتيجة إلّاإذا كانت الكبرى كليّة.
ودراسة قضايا الفئة الاولى التي ترتبط في مجال الاستنتاج بمحتوى القضيّة المستنتجة ومضمونها من وظيفة العلوم المختلفة، فكلّ عالم يتناول من تلك القضايا ما يندرج في نطاق اختصاصه.
وأمّا دراسة قضايا التلازم التي تتمثّل في الفئة الثانية وترتبط بشكل القضيّة دون مضمونها ومحتواها، فهي من وظيفة المنطق الصوري الذي يعتبر المنطق الأرسطي ممثّلًا له، فهو الذي يحدّد صيغ التلازم بين القضايا من ناحيتها الصورية والشكليّة بقطع النظر عن مادّتها ومحتواها.

[القضايا المستنتجة بالتوالد الذاتي:]

ولنأخذ الآن- بعد هذا- القضايا والمعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الذاتي.
إنّ الجزء الأكبر من المعرفة التي يعترف المذهب العقلي والمنطق الأرسطي بصحّتها يعود إلى قضايا مستنتجة بطريقة التوالد الذاتي، وسوف نثبت هذا بصورة موسّعة في القسم الأخير من الكتاب إن شاء اللَّه تعالى. وإلى أن يحصل هذا

164

[القضايا المستنتجة بالتوالد الموضوعي:]

وإذا أخذنا القضايا الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي ودرسنا طريقة استنتاجها، وجدنا أنّ كلّ قضيّة من هذا النوع تستند في استنتاجها بطريقة التوالد الموضوعي إلى فئتين من القضايا: الفئة الاولى قضايا ترتبط بإنتاج تلك القضيّة المعيّنة بالذات، والفئة الثانية قضايا تقرّر ثبوت التلازم بين الفئة الاولى والقضيّة المستنتجة بالتوالد الموضوعي.
وقضايا التلازم هذه عامّة بطبيعتها ولا تختصّ بإنتاج قضيّة دون اخرى، ففي مثال «خالد إنسان وكلّ إنسانٍ فان» توجد لدينا ثلاث قضايا تولّدت منها بصورة موضوعيّة القضيّة القائلة «إنّ خالداً فانٍ»، والقضايا الثلاث هي: أوّلًا «خالد إنسان»، ثانياً «كلّ إنسان فانٍ»، ثالثاً «كلّما كان شي‏ء عنصراً من فئة وكانت كلّ عناصر تلك الفئة تتّصف بصفة فإنّ ذلك يستلزم أن يكون ذلك الشي‏ء متّصفاً بتلك الصفة».
والاولى والثانية من هذه القضايا الثلاث تدخلان في الفئة الاولى؛ لأنّهما قضيّتان مرتبطتان بإنتاج قضيّة معيّنة، وأمّا القضية الثالثة فهي تدخل في الفئة الثانية؛ لأنّها تقرّر تلازماً عاماً بين شكلين من القضايا مهما كان محتواها.
ونلاحظ في هذا الضوء: أنّ الخطأ في إدراك قضية ثانوية مستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي يستند دائماً إلى الخطأ في إحدى القضايا (المقدّمات) التي ساهمت في توليد تلك القضية الجديدة، فإمّا أن يكون الخطأ في قضايا من الفئة الاولى، أو في قضايا التلازم التي تتمثّل في الفئة الثانية.
فإذا قلنا: «النفط سائل، وكلّ سائل يتبخّر في درجة مائة من الحرارة، وكلّما كان شي‏ء عنصراً من فئة وكانت كلّ عناصر تلك الفئة تتّصف بصفة فإنّ ذلك‏

163

العقليّة القبليّة التي تنفي تكرّر الصدفة النسبيّة على الخطّ الطويل.
وبكلمة مختصرة: إنّ المذهب العقلي الذي يمثّله المنطق الأرسطي حاول أن يفسّر جميع العلوم والمعارف التي يعترف بصحّتها من الناحية المنطقيّة بأ نّها: إمّا أن تكون معارف أوليّة تعبّر عن الجانب العقلي القبلي من المعرفة البشريّة، وإمّا أن تكون مستنتجة من تلك المعارف على أساس طريقة التوالد الموضوعي.
وخلافاً لذلك يؤمن المذهب الذاتي في المعرفة بأنّ الجزء الأكبر من تلك العلوم والمعارف- التي يعترف المنطق الأرسطي بصحّتها من الناحية المنطقيّة- مستنتج من معارفنا الأوّلية بطريقة التوالد الذاتي لا الموضوعي.
فهناك في رأي المذهب الذاتي معارف أوّلية تشكّل الجزء العقلي القبلي من المعرفة، وهو الأساس للمعرفة البشريّة على العموم.
وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الموضوعي.
وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي:
ومثال المعارف الأوّلية: مبدأ عدم التناقض الذي يعتبره المذهب الذاتي- وفاقاً للمذهب العقلي- معرفة عقلية قبلية.
ومثال المعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الموضوعي: نظريات الهندسة الإقليدية المستنتجة من بديهات تلك الهندسة بطريقة التوالد الموضوعي.
ومثال المعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الذاتي: كلّ التعميمات الاستقرائية، فإنّ التعميم الاستقرائي مستنتج من مجموعة أمثلة وشواهد لا يوجد أيّ تلازم بينها وبين ذلك التعميم، فالعلم بالتعميم ينشأ عن طريق العلم بتلك الأمثلة والشواهد على أساس التوالد الذاتي.

162

للتلازم بين الجانبين الموضوعيين.
والمذهب العقلي- الذي يمثّله المنطق الأرسطي- يؤمن بأنّ الطريقة الوحيدة الصحيحة من الناحية المنطقيّة هي: طريقة التوالد الموضوعي، وأمّا طريقة التوالد الذاتي فهي تعبّر عن خطأ من الناحية المنطقية؛ لأنّها تحاول استنتاج قضية من قضية اخرى دون أيّ تلازم بين القضيّتين.
وتورّط الفكر البشري في الخطأ له شكلان رئيسيان، أحدهما: استعماله لطريقة التوالد الذاتي، أي استنتاج نتيجة من مقدّمات صادقة لا تستلزم تلك النتيجة. والشكل الآخر: استعماله لطريقة التوالد الموضوعي باستنتاج نتيجة من مقدّمات تستلزم تلك النتيجة، ولكن المقدّمات كاذبة.
فلكي يكون الاستدلال صحيحاً في رأي المذهب العقلي لا بدّ أن تكون طريقة التوالد فيه موضوعيّة لا ذاتيّة، وأن تكون القضايا أو المقدّمات المولّدة صادقة.
وعلى هذا الأساس اضطرّ المنطق الأرسطي- نتيجةً لإيمانه بالدليل الاستقرائي- إلى القول بأنّ طريقة التوالد في الاستدلالات الاستقرائية موضوعية لا ذاتية، وأنّ كلّ استدلال استقرائي مردّه إلى قياس يشتمل على كبرى عقليّة قبلية تقول: إنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر باستمرار على خطّ طويل، وصغرى مستمدّة من الخبرة الحسيّة تقول: إنّ (أ) و (ب) اقترنا باستمرار على خطّ طويل، كما شرحناه في القسم الأوّل من هذا الكتاب.
وأكّد المنطق الأرسطي بهذا الصدد: أنّ الأمثلة المستمدّة من الاستقراء والخبرة الحسيّة- التي تكوّن الصغرى في القياس- لا تكفي وحدها لاستنتاج أي تعميم استقرائي؛ إذ لا تلازم بينها وبين التعميم موضوعيّاً، فلا تكون طريقة التوالد في الاستقراء موضوعيّة ما لم ندخل في الاستدلال الاستقرائي تلك الكبرى‏

161

الشمس طالعة، أو أنّ المساوي لأحد المتساويين مساوٍ للآخر أيضاً، نميّز بين عنصرين: أحدهما: الإدراك، وهو الجانب الذاتي من المعرفة، والآخر: القضيّة التي أدركناها، ولها- بحكم تصديقنا بها- واقع ثابت بصورة مستقلّة عن الإدراك، وهذا هو الجانب الموضوعي من المعرفة.
والتوالد الموضوعي يعني: أ نّه متى ما وجد تلازم بين قضيّة أو مجموعة من القضايا وقضيّة اخرى، فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضيّة من معرفتنا بالقضايا التي تستلزمها، فمعرفتنا ب «أنّ خالداً إنسان، وأنّ كلّ إنسان فانٍ» تتولّد منها معرفة ب «أنّ خالداً فانٍ». وهذا التوالد موضوعي؛ لأنّه نابع عن التلازم بين الجانب الموضوعي من المعرفة المولّدة والجانب الموضوعي من المعرفة المتولّدة.
وهذا التوالد الموضوعي هو الأساس في كلّ استنتاج يقوم على القياس الأرسطي؛ لأنّ النتيجة في القياس دائماً ملازمة للمقدّمات التي يتكوّن منها القياس، فتنشأ معرفتنا بالنتيجة من معرفتنا بالمقدّمات على أساس التوالد الموضوعي والتلازم بين القضايا المستدَلّ ببعضها على البعض الآخر بصورة قياسيّة.
والتوالد الذاتي يعني: أنّ بالإمكان أن تنشأ معرفة ويولد علم على أساس معرفة اخرى، دون أيّ تلازم بين موضوعَي المعرفتين، وإنّما يقوم التوالد على أساس التلازم بين نفس المعرفتين. فبينما كان المبرّر لنشوء معرفة من معرفة اخرى في حالات التوالد الموضوعي هو التلازم بين الجانبين الموضوعيين للمعرفة، وكان التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة تابعاً للتلازم بين الجانبين الموضوعيين، نجد في حالات التوالد الذاتي: أنّ المبرّر لنشوء معرفة من معرفة اخرى هو التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة، وأنّ هذا التلازم ليس تابعا

160

الاولى: في تحديد المصدر الأساس للمعرفة، فالتجريبيّون يؤمنون بأنّ التجربة والخبرة الحسيّة هي المصدر الوحيد للمعرفة، فلا توجد لدى الإنسان أيّ معرفة قبليّة بصورة مستقلّة عن الحسّ والتجربة. والعقليون يؤمنون بوجود قضايا ومعارف يدركها الإنسان بصورة قبليّة ومستقلّة عن الحسّ والتجربة، وأنّ هذه القضايا تشكّل الأساس للمعرفة البشريّة، والقاعدة التي يقوم على أساسها البناء الفوقي للمعرفة كلّه. وفي هذه النقطة يتّفق المذهب الذاتي مع المذهب العقلي، وسندرس هذه النقطة في القسم الأخير من هذا الكتاب- إن شاء اللَّه تعالى-.
الثانية: في تفسير نموّ المعرفة، بمعنى أنّ هذه المعارف القبليّة الأوّلية كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟ وكيف يمكننا أن نستنتج من القضايا التي تشكّل الأساس الأوّل للمعرفة قضايا اخرى، وهكذا حتّى يتكامل البناء؟
وفي هذه النقطة يختلف المذهب العقلي مع المذهب الذاتي اختلافاً أساسياً:
فالمذهب العقلي لا يعترف عادةً إلّابطريقة واحدة لنموّ المعرفة، وهي طريقة التوالد الموضوعي، بينما يرى المذهب الذاتي: أنّ في الفكر طريقتين لنموّ المعرفة، إحداهما: التوالد الموضوعي، والاخرى: التوالد الذاتي. ويعتقد المذهب الذاتي بأنّ الجزء الأكبر من معرفتنا بالإمكان تفسيره على أساس التوالد الذاتي.

[الفرق بين التوالد الموضوعي والتوالد الذاتي:]

ولكي نتصوّر محتوى هذا الخلاف بين المذهب العقلي والمذهب الذاتي يجب أن نوضّح ما نقصده بالتوالد الموضوعي والتوالد الذاتي:
إنّ في كلّ معرفة جانباً ذاتياً وجانباً موضوعياً. فنحن حين نعرف: أن‏

159

عرفنا حتّى الآن الطريقة التي اتّخذها المذهب العقلي في علاج مشكلة الاستقراء وتفسير الدليل الاستقرائي. كما عرفنا أيضاً الاتجاهات الثلاثة التي ظهرت على مسرح المذهب التجريبي في الفكر الفلسفي الحديث في مجال تحليل الدليل الاستقرائي وتقييمه.
وإلى جانب دراسة الاستقراء على أساس المذهب العقلي والمذهب التجريبي نريد أن ندرس الدليل الاستقرائي على أساس مذهب ثالث في نظريّة المعرفة، نطلق عليه اسم «المذهب الذاتي» تمييزاً له عن المذهبين: العقلي والتجريبي.
ونريد بالمذهب الذاتي للمعرفة: اتجاهاً جديداً في نظريّة المعرفة يختلف عن كلّ من الاتجاهين التقليديين اللذين يتمثّلان في المذهب العقلي والمذهب التجريبي.
ولا بدّ من تمييز أساسي بصورة عامّة بين هذه الاتجاهات الثلاثة، قبل أن ندخل في تفاصيل موقف المذهب الذاتي من الدليل الاستقرائي. وذلك كما يلي:

[نقطتان رئيسيّتان في تفسير المعرفة:]

توجد نقطتان رئيسيّتان في تفسير المعرفة البشريّة:

158

157

الاستقراء والمذهب الذاتي للمعرفة

1

 

التعريف بالمذهب الذاتي‏

نقطتان رئيسيّتان في تفسير المعرفة.
الفرق بين التوالد الموضوعي والتوالد الذاتي.
القضايا المستنتجة بالتوالد الموضوعي.
القضايا المستنتجة بالتوالد الذاتي.
مرور التوالد الذاتي بمرحلتين.