کتابخانه
100

التكرار والاجترار[1].

ومرّة اخرى نؤكّد على أ نّنا لا ننكر على التجربة فضلها العظيم على الإنسانية ومدى خدمتها في ميادين العلم، وإنّما نريد أن يفهم هؤلاء التجريبيون:

أنّ التجربة ليست هي المقياس الأوّل والمنبع الأساسي للأفكار والمعارف الإنسانية، بل المقياس الأوّل والمنبع الأساسي هو: المعلومات الأوّلية العقلية التي نكتسب على ضوئها جميع المعلومات والحقائق الاخرى، حتّى إنّ التجربة بذاتها محتاجة إلى ذلك المقياس العقلي، فنحن والآخرون على حدّ سواء في ضرورة الاعتراف بذلك المقياس الذي ترتكز عليه اسس فلسفتنا الإلهية، وإذا حاول‏

 

[1] ومن الغريب حقّاً ما حاوله الدكتور زكي نجيب محمود: من تركيز الاعتراض السابق الذكر على الاستدلال القياسي كما في قولنا:( كلّ إنسان فانٍ، ومحمّد إنسان، فمحمّد فانٍ) قائلًا:« قد تقول: ولكن حين اعمّم في المقدّمة الاولى لا اريد الناس فرداً فرداً؛ لأنّ إحصاءهم على هذا النحو مستحيل، إنّما اريد النوع بصفة عامّة، ولكن إذا كان أمرك كذلك فكيف استطعت أن تخصّص الحكم على محمّد؟! إنّ محمّداً ليس هو النوع بصفة عامّة، إنّما هو فرد متعيّن متخصّص، فحكمك عليه بما حكمت به على النوع بصفة عامّة هو في حقيقة الأمر قياس باطل» المنطق الوضعي: 250.

وهذا خلط عجيب بين المعقول الأوّل والمعقول الثاني في مصطلح المنطقيين؛ فإنّ الحكم على النوع بصفة عامّة يعني أحد أمرين:

أوّلهما- أن يكون الحكم على الإنسان باعتبار صفة العموم والنوعية فيه، ومن الواضح: أنّ هذا الحكم لا يمكن أن يُخصَّص على محمّد؛ لأنّ محمّداً ليس فيه صفة العموم والنوعية.

وثانيهما- أن يكون الحكم على ذات الإنسان من دون إضافة أيّ تخصيص إليه، وهذا الحكم يمكن أن نطبّقه على محمّد؛ لأنّ محمّداً إنسان، فالحدّ الأوسط له معنى واحد تكرّر في الصغرى والكبرى معاً، فيكون القياس منتجاً.( المؤلّف قدس سره)

99

نتائج العلوم الطبيعية ظنّية في أكثر الأحايين؛ لأجل نقص في نفس التجربة، وعدم استكمال الشرائط التي تجعل منها تجربة حاسمة.

ويتّضح لنا على ضوء ما سبق: أنّ استنتاج نتيجة علمية من التجربة يتوقّف- دائماً- على الاستدلال القياسي، الذي يسير فيه الذهن البشري من العامّ إلى الخاصّ ومن الكلّي إلى الجزئي كما يرى المذهب العقلي تماماً، فإنّ العالم تمّ له استنتاج النتيجة في المثال الذي ذكرناه بالسير من المبادئ الأوّلية الثلاثة التي عرضنا: (مبدأ العلّية) (مبدأ الانسجام) (مبدأ عدم التناقض)، إلى تلك النتيجة الخاصّة على طريقة القياس‏[1].

وأمّا الاعتراض الذي يوجِّهه التجريبيون إلى الطريقة القياسية في الاستدلال: بأنّ النتيجة فيها ليست إلّاصدى للكبرى وتكريراً لها، فهو اعتراض ساقط على اصول المذهب العقلي؛ لأنّ الكبرى لو كنّا نريد إثباتها بالتجربة ولم يكن لنا مقياس غيرها لكان علينا أن نفحص جميع الأقسام والأنواع لنتأكّد من صحّة الحكم، وتكون النتيجة- حينئذٍ- قد درست في الكبرى بذاتها أيضاً، وأمّا إذا كانت الكبرى من المعارف العقلية التي ندركها بلا حاجة إلى التجربة:

كالأوّليات البديهية والنظريات العقلية المستنبطة منها، فلا يحتاج المستدلّ لإثبات الكبرى إلى فحص الجزئيات حتّى يلزم من ذلك أن تتّخذ النتيجة صفة

 

[1] أشرنا سابقاً إلى أنّ المؤلّف قدس سره انتهى في كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء» إلى إمكان معالجة مشكلة التعميم في القضايا الاستقرائيّة في ضوء ما تبنّاه من المذهب الذاتي للمعرفة، بنحو يبقى معه السير الفكري في تلك القضايا من الخاصّ إلى العامّ، من دون حاجة إلى ضمّ الكبريات العقليّة المسبقة التي تجعل السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ على طريقة الاستدلال القياسي.( لجنة التحقيق)

98

وهي: أنّ الظروف المتماثلة والأشياء المتشابهة في النوع والحقيقة يجب أن تشترك في القوانين والنواميس؟! وهنا نتساءل مرّة اخرى عن هذه القاعدة:
كيف توصّل إليها العقل؟ ولا يمكن للتجريبيين هنا أن يزعموا أ نّها قاعدة تجريبية، بل يجب أن تكون من المعارف العقلية السابقة على التجربة؛ لأنّها لو كانت مستندة إلى تجربة فهذه التجربة التي ترتكز عليها القاعدة هي- أيضاً- لا تتناول بدورها إلّاموارد خاصّة، فكيف ركّزت على أساسها قاعدة عامّة؟! فبناء قاعدة عامّة وقانون كلّي على ضوء تجربة واحدة أو عدّة تجارب لا يمكن أن يتمّ إلّابعد التسليم بمعارف عقلية سابقة.
وبهذا يتّضح: أنّ جميع النظريات التجريبية في العلوم الطبيعية ترتكز على عدّة معارف عقلية لا تخضع للتجربة، بل يؤمن العقل بها إيماناً مباشراً، وهي:
أوّلًا- مبدأ العلّية بمعنى: امتناع الصدفة؛ ذلك أنّ الصدفة لو كانت جائزة لما أمكن للعالم الطبيعي أن يصل إلى تعليل مشترك للظواهر المتعدّدة التي ظهرت في تجاربه.
ثانياً- مبدأ الانسجام بين العلّة والمعلول الذي يقرّر أنّ الامور المتماثلة في الحقيقة لا بدّ أن تكون مستندة إلى علّة مشتركة.
ثالثاً- مبدأ عدم التناقض الحاكم باستحالة صدق النفي والإثبات معاً.
فإذا آمن العالم بهذه المعارف السابقة على التجربة ثمّ أجرى تجاربه المختلفة على أنواع الحرارة وأقسامها، استطاع أن يقرّر في نهاية المطاف نظرية في تعليل الحرارة بمختلف أنواعها بعلّة واحدة كالحركة مثلًا. وهذه النظرية لا يمكن في الغالب تقريرها بشكل حاسم وصورة قطعيّة؛ لأنّها إنّما تكون كذلك إذا أمكن التأكّد من عدم إمكان وجود تفسير آخر لتلك الظواهر، وعدم صحّة تعليلها بعلّة اخرى، وهذا ما لا تحقّقه التجربة في أغلب الأحيان، ولهذا تكون‏

97

فلو لم يكن لحركة اليد سبق واقعي وسببية موضوعية لحركة القلم لما أمكن اعتبارها علّة.
وخامساً: أنّ التداعي كثيراً ما يحصل بين شيئين دون الاعتقاد بعلّية أحدهما للآخر، فلو صحّ ل (دافيد هيوم) أن يفسّر العلّة والمعلول بأ نّهما حادثان ندرك تعاقبهما كثيراً حتّى تحصل بينهما رابطة تداعي المعاني في الذهن لكان الليل والنهار من هذا القبيل، فكما أنّ الحرارة والغليان حادثان تعاقبا حتّى نشأت بينهما رابطة التداعي كذلك الليل والنهار وتعاقبهما وتداعيهما، مع أنّ عنصر العلّية والضرورة الذي ندركه بين الحرارة والغليان ليس موجوداً بين الليل والنهار، فليس الليل علّة للنهار، ولا النهار علّة لليل، فلا يمكن- إذن- تفسير هذا العنصر بمجرّد التعاقب المتكرّر والمؤدّي إلى تداعي المعاني كما حاوله (هيوم).
ونخلص من ذلك إلى أنّ المذهب التجريبي يؤدّي حتماً إلى إسقاط مبدأ العلّية، والعجز عن إثبات علاقات ضرورية بين الأشياء، وإذا سقط مبدأ العلّية انهارت جميع العلوم الطبيعية؛ باعتبار ارتكازها عليه كما ستعرف.
إنّ العلوم الطبيعية التي يريد التجريبيون إقامتها على أساس التجربة الخالصة، هي بنفسها تحتاج إلى اصول عقلية أوّلية سابقة على التجارب؛ ذلك أنّ التجربة إنّما يقوم العالم بها في مختبره على جزئيات موضوعية محدودة، فيضع نظرية لتفسير الظواهر التي كشفتها التجربة في المختبر وتعليلها بسبب واحد مشترك، كالنظرية القائلة: بأنّ سبب الحرارة هو الحركة استناداً إلى عدّة تجارب فُسِّرت بذلك، ومن حقّنا على العالم الطبيعي أن نسأله عن كيفية إعطائه للنظرية بصفة قانون كلّي ينطبق على جميع الظروف المماثلة لظروف التجربة، مع أنّ التجربة لم تقع إلّاعلى عدّة أشياء خاصّة، أفليس هذا التعميم يستند إلى قاعدة،

96

الذي يباع فيه؟
فإن كانت علاقة ضرورية فقد ثبت مبدأ العلّية، واعترف ضمناً بقيام علاقة غير تجريبية بين فكرتين، وهي: علاقة الضرورة، فإنّ الضرورة سواءٌ أكانت بين فكرتين أم بين واقعين موضوعيّين لا يمكن إثباتها بالتجربة الحسّية.
وإن كانت العلاقة مجرّد مقارنة فلم يتحقّق ل (دافيد) ما أراد من تفسير عنصر الضرورة في قانون العلّة والمعلول.
وثالثاً: أنّ الضرورة التي ندركها في علاقة العلّية بين علّة ومعلول، ليس فيها- مطلقاً- أيُّ أثر لإلزام العقل باستدعاء إحدى الفكرتين عند حصول الفكرة الاخرى فيه، ولذا لا تختلف هذه الضرورة- التي ندركها بين العلّة والمعلول- بين ما إذا كانت لدينا فكرة معيّنة عن الصلة وما إذا لم تكن، فليست الضرورة في مبدأ العلّية ضرورة سيكولوجية، بل هي ضرورة موضوعية.
ورابعاً: أنّ العلّة والمعلول قد يكونان مقترنين تماماً ومع ذلك ندرك علّية أحدهما للآخر، كحركة اليد وحركة القلم حال الكتابة؛ فإنّ حركة اليد وحركة القلم توجدان دائماً في وقت واحد، فلو كان مردّ الضرورة والعلّية إلى استتباع إحدى العمليّتين العقليّتين للُاخرى بالتداعي لما أمكن في هذا المثال أن تحتلّ حركة اليد مركز العلّة دون حركة القلم؛ لأنّ العقل قد أدرك الحركتين في وقت واحد، فلماذا وضع إحداهما موضع العلّة والاخرى موضع المعلول؟!
وبكلمة اخرى: أنّ تفسير العلّية بضرورة سيكولوجية يعني: أنّ العلّة إنّما اعتبرت علّة لا لأنّها في الواقع الموضوعي سابقة على المعلول ومولّدة له، بل لأنّ إدراكها يتعقّبه دائماً إدراك المعلول بتداعي المعاني، فتكون لذلك علّة له، وهذا التفسير لا يمكنه أن يشرح لنا كيف صارت حركة اليد علّة لحركة القلم مع أنّ حركة القلم لا تجي‏ء عقب حركة اليد في الإدراك، وإنّما تدرك الحركتان معاً،

95

وقد اعترف بعض التجريبيين ك (دافيد هيوم) و (جون ستيوارت ميل) بهذه الحقيقة، ولذلك فَسَّر (هيوم‏[1]) عنصر الضرورة في قانون العلّة والمعلول بأ نّه راجع إلى طبيعة العملية العقلية التي تستخدم في الوصول إلى هذا القانون قائلًا: إنّ إحدى عمليات العقل إذا كانت تستدعي دائماً عملية اخرى تتبعها بدون تخلّف فإنّه ينمو بين العمليّتين بمضيّ الزمن رابطة قوية دائمة هي التي نسمّيها رابطة تداعي المعاني، ويصحب هذا التداعي نوع من الإلزام العقلي بحيث يحصل في الذهن المعنى المتّصل بإحدى العمليتين العقليتين كما حدث المعنى المتّصل بالعملية الاخرى، وهذا الإلزام العقلي أساس ما نسمّيه بالضرورة التي ندركها في الرابطة بين العلّة والمعلول.

وليس من شكّ في أنّ هذا التفسير للضرورة القائمة بين العلّة والمعلول ليس صحيحاً؛ لما يأتي:

أوّلًا: أ نّه يلزم على هذا التفسير أن لا نصل إلى قانون العلّيّة العامّ إلّابعد سلسلة من الحوادث والتجارب المتكرّرة التي تحكم الرباط بين فكرتي العلّة والمعلول في الذهن، مع أ نّه ليس من الضروري ذلك؛ فإنّ العالم الطبيعي يستطيع أن يستنتج علاقة علّية وضرورة بين شيئين يقعان في حادثة واحدة، ولا يزداد يقينه شيئاً عمّا كان عليه عند مشاهدته الحادثة للمرّة الاولى، كما لا تزداد علاقة العلّية قوّة بتكرار حوادث اخرى يوجد فيها المعلول والعلّة نفسها.

وثانياً: لندع الظاهرتين المتعاقبتين في الخارج، ولنلاحظ فكرتيهما في الذهن- أي: فكرة العلّة وفكرة المعلول- فهل العلاقة القائمة بينهما علاقة ضرورية أو علاقة مقارنة كما يقترن تصوّرنا للحديد بتصوّرنا للسوق‏

 

[1] راجع قصّة الفلسفة الحديثة 1: 155- 158

94

وجواز التناقض يؤدّي إلى انهيار جميع المعارف والعلوم، وعدم تمكّن التجربة من إزاحة الشكّ والتردّد في أيّ مجال من المجالات العلمية؛ لأنّ التجارب والأدلّة مهما تظافرت على صدق قضية علمية معيّنة كقضية (الذهب عنصر بسيط)، فلا يمكننا أن نجزم بأ نّها ليست كاذبة ما دام من الممكن أن تتناقض الأشياء وتصدق القضايا وتكذب في وقت معاً.

الرابع: أنّ مبدأ العلّية لا يمكن إثباته عن طريق المذهب التجريبي، فكما أنّ النظرية الحسّية كانت عاجزة عن إعطاء تعليل صحيح للعلّية كفكرة تصوّرية، كذلك المذهب التجريبي يعجز عن البرهنة عليها بصفتها مبدأ وفكرة تصديقية؛ فإنّ التجربة لا يمكنها أن توضّح لنا إلّاالتعاقب بين ظواهر معيّنة، فنعرف عن طريقها أنّ الماء يغلي إذا صار حارّاً بدرجة مئة، وأ نّه يتجمّد حين تنخفض درجة حرارته إلى الصفر، وأمّا سببية إحدى الظاهرتين للُاخرى والضرورة القائمة بينهما فهي ممّا لا تكشفها وسائل التجربة مهما كانت دقيقة ومهما كرّرنا استعمالها[1]. وإذا انهار مبدأ العلّية انهارت جميع العلوم الطبيعية كما ستعرف.

 

[1] وقد أكّد المؤلّف قدس سره في كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء» أنّ مبدأ العليّة وسائر قضايا السببيّة التي تتضمّن معنى الضرورة واستحالة الانفكاك وإن كانت لا تخضع لوسائل التجربة مهما كانت دقيقة، ولهذا يعجز المذهب التجريبي عن إثباتها، ولكن يمكن إثباتها بالاستقراء في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة، وهذا لا يعني رفض المصدر العقلي القبلي لهذه القضايا، بل يعني أ نّا حتّى لو استبعدنا العلم العقلي القبلي بهذه القضايا يظلّ بالإمكان إثباتها في عالم الطبيعة عن طريق الاستقراء، وهذا ما أشار إليه في مناقشته للاتّجاه الأوّل من اتّجاهات المذهب التجريبي في الكتاب المذكور، كما أ نّه مشمول أيضاً لما أكّد عليه- في القسم الرابع من نفس الكتاب- من إمكان الاستدلال استقرائيّاً على جميع القضايا الأوّليّة والفطريّة عدا ما استثناه، فراجع.( لجنة التحقيق)

93

ومع ذلك فنحن لا نعتبرها مستحيلة، ولا نسلب عنها إمكان الوجود كما نسلبه عن الأشياء المستحيلة، فكم يبدو الفرق جليّاً بين اصطدام القمر بالأرض، أو وجود بشر في المرّيخ، أو وجود إنسان يتمكّن من الطيران لمرونة خاصّة في عضلاته من ناحية، وبين وجود مثلّث له أربعة أضلاع، ووجود جزء أكبر من الكلّ، ووجود القمر حال انعدامه من ناحية اخرى. فإنّ هذه القضايا جميعاً لم تتحقّق ولم تقم عليها تجربة، فلو كانت التجربة هي المصدر الرئيسي الوحيد للمعارف لما صحّ لنا أن نفرّق بين الطائفتين؛ لأنّ كلمة التجربة فيهما معاً على حدّ سواء، وبالرغم من ذلك فنحن جميعاً نجد الفرق الواضح بين الطائفتين: فالطائفة الاولى لم تقع ولكنّها جائزة ذاتياً، وأمّا الطائفة الثانية فهي ليست معدومة فحسب، بل لا يمكن أن توجد مطلقاً، فالمثلّث لا يمكن أن يكون له أضلاع أربعة سواءٌ اصطدم القمر بالأرض أم لا. وهذا الحكم بالاستحالة لا يمكن تفسيره إلّاعلى ضوء المذهب العقلي بأن يكون من المعارف العقلية المستقلّة عن التجربة.
وعلى هذا الضوء يكون التجريبيون بين سبيلين لا ثالث لهما: فإمّا أن يعترفوا باستحالة أشياء معيّنة كالأشياء التي عرضناها في الطائفة الثانية، وإمّا أن ينكروا مفهوم الاستحالة من الأشياء جميعاً.
فإن آمنوا باستحالة أشياء- كالتي ألمحنا إليها- كان هذا الإيمان مستنداً إلى معرفة عقلية مستقلّة لا إلى التجربة؛ لأنّ عدم ظهور شي‏ء في التجربة لا يعني استحالته.
وإن أنكروا مفهوم الاستحالة ولم يقرّوا باستحالة شي‏ء مهما كان غريباً لدى العقل فلا يبقى على أساس هذا الإنكار فرق بين الطائفتين اللتين عرضناهما وأدركنا ضرورة التفرقة بينهما، وإذا سقط مفهوم الاستحالة لم يكن التناقض مستحيلًا- أي: وجود الشي‏ء وعدمه، وصدق القضية وكذبها في لحظة واحدة-

92

لا تدرك بالحسّ، فالوردة التي نراها على الشجرة أو نلمسها بيدنا إنّما نحسّ برائحتها ولونها ونعومتها، وحتّى إذا تذوّقناها فإنّنا نحسّ بطعمها، ولا نحسّ في جميع تلك الأحوال بالجوهر الذي تلتقي جميع هذه الظواهر عنده، وإنّما ندرك هذا الجوهر ببرهان عقلي يرتكز على المعارف العقلية الأوّلية- كما سنشير إليه في البحوث المقبلة- ولأجل ذلك أنكر عدّة من الفلاسفة الحسّيين التجريبيين وجود المادّة[1]. فالسند الوحيد لإثبات المادّة هو: معطيات العقل الأوّلية، ولولاها لما كان في طاقة الحسّ أن يثبت لنا وجود المادّة وراء الرائحة الذكية واللون الأحمر والطعم الخاصّ للوردة.

وهكذا يتّضح لنا أنّ الحقائق الميتافيزيقية ليست هي وحدها التي يحتاج إثباتها إلى اتّخاذ الطريقة العقلية في التفكير، بل المادّة نفسها كذلك أيضاً.

وهذا الاعتراض إنّما نسجّله بطبيعة الحال على من يؤمن بوجود جوهر مادّي في الطبيعة على اسس المذهب التجريبي، وأمّا من يفسّر الطبيعة بمجرّد ظواهر تحدث وتتغيّر دون أن يعترف لها بموضوع تلتقي عنده، فلا صلة له بهذا الاعتراض.

الثالث: أنّ الفكر لو كان محبوساً في حدود التجربة ولم يكن يملك معارف مستقلّة عنها لما اتيح له أن يحكم باستحالة شي‏ء من الأشياء مطلقاً؛ لأنّ الاستحالة- بمعنى عدم إمكان وجود الشي‏ء- ليس ممّا يدخل في نطاق التجربة، ولا يمكن للتجربة أن تكشف عنه، وقصارى ما يتاح للتجربة أن تدلّل عليه هو:

عدم وجود أشياء معيّنة، ولكن عدم وجود شي‏ء لا يعني استحالته، فهناك عدّة أشياء لم تكشف التجربة عن وجودها، بل دلّت على عدمها في نطاقها الخاصّ،

 

[1] راجع قصّة الفلسفة الحديثة 1: 153، 167