کتابخانه
174

ونحن في دراستنا لنظرية الاحتمال سوف نتناول ثلاث نقاط:
ففي النقطة الاولى نفترض أ نّنا نعلم مسبقاً ما نقصده حينما نقول: إنّ احتمال ظهور وجه الصورة إذا رمينا قطعة النقد عشوائياً: 2/ 1، أي نكتفي بفهمنا العام الذي نملكه في حياتنا الاعتيادية للاحتمال، وندرس البديهيات والمبادئ التي تفترضها نظرية الاحتمال، والتي تجعل بالإمكان إجراء العمليات الحسابيّة على الاحتمال من جمع وضرب.
وفي النقطة الثانية: ندرس على ضوء تلك البديهيات التي تفترضها نظرية الاحتمال قواعد حساب الاحتمال، أي القواعد التي تحدّد طرائق جمع الاحتمالات وضربها.
وفي النقطة الثالثة: نعود إلى نفس المفهوم غير المعرّف، أي إلى الاحتمال نفسه لنفسّره تفسيراً منطقيّاً بشكل يفي بالبديهيات التي استعرضناها في النقطة الاولى، أي بشكل تصدق عليه تلك البديهيات ويشمل كلّ ما يكون بالإمكان تحديد قيمته من الاحتمالات.

173

النظريّة

كثيراً ما نتحدّث في حياتنا الاعتيادية عن الاحتمال، فإذا قيل: ما هي درجة احتمال أن يظهر وجه الصورة إذا قذفنا بقطعة النقد عشوائياً إلى الأرض؟
أجبنا على هذا السؤال بأ نّه 2/ 1، أي أنّ رمية قطعة النقد/ ظهور وجه الصورة/ 2/ 1.
وإذا كان أحد أولاد خالد العشرة أعمى فما هي درجة احتمال أن يكون أحد أولاد خالد الذي نختاره عشوائياً أعمى؟ إنّ درجة احتمال كونه أعمى 10/ 1، أي أنّ أحد أولاد خالد أعمى‏هذا الفرد أعمى/ 10/ 1.
وإذا اخترنا أربعة من أولاد خالد بطريقة عشوائيّة فما هو احتمال أن يكون الأعمى بينهم؟ إنّ احتمال ذلك هو 10/ 4، أي أنّ أحد أولاد خالد أعمى‏أحد الأربعة أعمى/ 10/ 4.
وهذه الكسور التي استعملناها: (2/ 1 أو 10/ 1 أو 10/ 4) تحدّد قيمة احتمال حادثة بالنسبة إلى حادثة اخرى، فهناك في المثال الأوّل حادثتان إحداهما رمية قطعة النقد والاخرى ظهور وجه الصورة، و 2/ 1 هو الكسر الذي يحدّد قيمة احتمال الحادثة الثانية بالنسبة إلى الحادثة الاولى، أي أ نّا إذا افترضنا وقوع الحادثة الاولى فاحتمال وقوع الحادثة الثانية هو 2/ 1.

172

وعلى هذا الأساس سوف نبدأ الآن بدراسة نظرية الاحتمال تمهيداً لتفسير المرحلة الاولى من الدليل الاستقرائي.

171

أشرنا إلى أنّ الدليل الاستقرائي في مرحلته الاولى يكون دليلًا استنباطياً، وسوف نجد عند شرح ذلك كيف أنّ الدليل الاستقرائي في هذه المرحلة يسير وفقاً لمناهج الاستنباط التي تقوم على أساس التوالد الموضوعي، فلا يوجد في الدليل الاستقرائي في مرحلته الاولى أيّ قفزة من الخاصّ إلى العامّ، أو أيّ ثغرة عقليّة.
ولكن هذه المرحلة من الدليل الاستقرائي- كما سوف تعرف- لا تستطيع أن تصل بالمعرفة المستدلّة استقرائيّاً إلى مستوى اليقين، وإنّما تقتصر على منحها أكبر درجة من الاحتمال، لكي تصل بعد ذلك إلى مستوى العلم على يد المرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي.
ويرتبط المنهج الاستنباطي الذي يتّخذه الدليل الاستقرائي في المرحلة الاولى ارتباطاً أساسياً بنظرية الاحتمال، ولهذا نجد من الضروري أن نتحدّث أوّلًا عن نظرية الاحتمال، وبعد تكوين فكرة موسّعة عن نظرية الاحتمال وتفسيره نستعرض المنهج الاستنباطي الذي يتّخذه الدليل الاستقرائي في المرحلة الاولى، ونوضح كيف أنّ هذا المنهج ليس إلّاتطبيقاً للمبادئ العامّة التي اتّفقنا عليها في نظريّة الاحتمال.
موسوعة الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره، ج‏2، ص: 172
وعلى هذا الأساس سوف نبدأ الآن بدراسة نظرية الاحتمال تمهيداً لتفسير المرحلة الاولى من الدليل الاستقرائي.

170

169

الاستقراء والمذهب الذاتي للمعرفة

2

 

نظريّة الاحتمال(ytilibaborp fo yroehT)

النظريّة.
1- بديهيّات نظريّة الاحتمال.
2- حساب الاحتمال.
3- تفسير الاحتمال.

168

نجد أنفسنا بحاجة إلى منطق جديد، إلى منطق ذاتي يكتشف الشروط التي تجعل طريقة التوالد الذاتي معقولة، كما احتجنا إلى المنطق الصوري لاكتشاف صيغ التلازم بين أشكال القضايا التي تجعل طريقة التوالد الموضوعي معقولة.

[مرور التوالد الذاتي بمرحلتين:]

وأنا أعتقد أنّ كلّ معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمرّ بمرحلتين، إذ تبدأ أوّلًا مرحلة التوالد الموضوعي، وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية، وينمو الاحتمال باستمرار، ويسير نموّ الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتّى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جدّاً من الاحتمال، غير أنّ طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين، وحينئذٍ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين.
والتعميمات الاستقرائيّة كلّها تمرّ بهاتين المرحلتين، ففي المرحلة الاولى- أي مرحلة التوالد الموضوعي- يتّخذ الدليل الاستقرائي مناهج الاستنباط العقلي، وينمي باستمرار درجة احتمال القضيّة الاستقرائيّة على أساس موضوعي. وفي المرحلة الثانية يتخلّى الدليل الاستقرائي عن منهجه الاستنباطي وطريقته في التوالد الموضوعي، ويصطنع طريقة التوالد الذاتي لتصعيد المعرفة الاستقرائيّة إلى درجة اليقين.
ونظراً إلى أنّ الدليل الاستقرائي يمرّ من وجهة نظر المذهب الذاتي بمرحلتين، فسوف نتكلّم عن تفسير الدليل الاستقرائي على ضوء المذهب الذاتي في فصلين:
الفصل الأوّل: في تفسير الدليل الاستقرائي في مرحلة التوالد الموضوعي.
الفصل الثاني: في تفسير الدليل الاستقرائي في مرحلة التوالد الذاتي.

167

قد مات من أنّ الشمس طالعة، وأنّ حجم الأرض أكبر من حجم القمر من أنّ الأرض تشتمل على معادن كثيرة، فإنّ هذا يؤدّي إلى جعل طريقة التوالد الذاتي مبرّراً لأيّ استدلال خاطئ، وليس هذا ما نقصده عندما نقرّر هذه الطريقة إلى جانب طريقة التوالد الموضوعي.
إنّ ما نقصده الآن هو أنّ جزءاً من المعرفة التي يؤمن بها العقليون على الأقلّ لم يتكوّن على أساس التوالد الموضوعي كما برهنّا سابقاً، وإنّما تكوّن على أساس التوالد الذاتي. وهذا يعني أنّا ما دمنا نودّ الاحتفاظ بذلك الجزء من المعرفة وبطابعه الموضوعي السليم، فلا بدّ أن نعترف بطريقة التوالد الذاتي، وبأنّ العقل ينتهج هذه الطريقة في الحصول على جزء من معرفته الثانوية.
ومن ناحية اخرى نجد في كثير من الحالات أنّ استنتاج قضيّة من قضيّة اخرى لا تستلزمها موضوعياً يعتبر خطأ لا يقرّه العقليّون ولا أيّ عقل سليم، من قبيل أن نستنتج أنّ زيداً مات من طلوع الشمس، أو أنّ خالداً جاء من إخبار المخبر بأنّ شخصاً ما قد جاء.
والمسألة الأساسيّة في هذا الضوء هي: كيف يمكن أن نميّز بين الحالات التي يكون فيها استنتاج قضية من قضايا اخرى بدون تلازم موضوعي بينهما صحيحاً، وبين الحالات التي يكون فيها استنتاج قضية من قضايا اخرى بدون تلازم موضوعي بينهما خطأ؟
وحينما نطرح المسألة بهذه الصيغة في ضوء ما توصّلنا إليه من نتائج حتّى الآن يبدو بوضوح: أنّ المنطق الأرسطي لا يكفي للجواب على هذا السؤال وتمييز الشروط التي تكسب التوالد الذاتي المعقولية والصحّة؛ لأنّ طريقة التوالد الذاتي أساساً لا تنطبق على المنطق الأرسطي.
ومن أجل ذلك نلاحظ أ نّا إذا انطلقنا من وجهة نظر المذهب الذاتي، فسوف‏

166

الادعاء على التوضيح والاستدلال الكامل أكتفي الآن بقسم واحد من تلك المعرفة، وهو التعميمات الاستقرائيّة التي يؤمن العقليون بأ نّها معرفة عقلية صحيحة من الناحية المنطقية، ويشعرون بعدم إمكان الشكّ فيها:
فقد برهنّا في القسم الأوّل من هذا الكتاب على أنّ العلم الاستقرائي التجريبي- أي العلم بالتعميم القائم على أساس الاستقراء والتجربة- لا يمكن أن يفسّر بطريقة التوالد الموضوعي، وأنّ المحاولة التي قام بها المنطق الأرسطي لإعطاء الاستدلال الاستقرائي شكلًا قياسياً لكي يقوم على أساس التوالد الموضوعي لم تكن ناجحة.
وهكذا نستطيع أن نبرهن لأنصار المذهب العقلي- الذي يمثّله المنطق الأرسطي- على أنّ طريقة التوالد الموضوعي ليست هي الطريقة الوحيدة التي يستعملها العقل في الحصول على معارفه الثانوية، بل يستعمل إلى جانبها أيضاً طريقة التوالد الذاتي؛ لأنّ العقليّين ما داموا يعترفون بالعلم الاستقرائي وما دمنا قد برهنّا على أنّ العلم الاستقرائي لا يمكن أن يكون نتيجة للتوالد الموضوعي (كما مرّ في القسم الأوّل من الكتاب) فلا بدّ أن يعترفوا إلى جانب ذلك بطريقة التوالد الذاتي، وهذا هو ما يدّعيه المذهب الذاتي للمعرفة.
ويترتّب على هذا أنّ من الضروري الاعتراف بأنّ هذه الطريقة الجديدة للتوالد ذاتيّاً التي تختلف عن طريقة التوالد الموضوعي، لا يمكن إخضاعها للمنطق الصوري أو الأرسطي الذي يعالج التلازم بين أشكال القضايا؛ إذ لا تقوم طريقة التوالد الذاتي على أساس التلازم بين القضية المستنتجة والقضايا التي اشتركت في إنتاجها؛ لأنّ التوالد ذاتي وليس موضوعياً.
ولكن هذا لا يعني فسح المجال لاستنتاج أيّ قضية من أيّ قضيّة اخرى على أساس التوالد الذاتي دون تقيّد بالتلازم بين القضيّتين، فنستنتج مثلًا أنّ زيدا