کتابخانه
82

الأرسطي وهو أن يكون ثبوت المحمول للموضوع فيها ضروريّاً، فلا يكفي لكي يكون العلم عقليّاً قبليّاً أن ندرك أنّ (الألف) ثابتة ل (الباء) بل لا بدّ أن ندرك ضرورة ثبوته له.
وهذه الضرورة: إمّا ذاتيّة تفرضها طبيعة الموضوع، وإمّا ناشئة عن سبب أدّى إلى ثبوت المحمول للموضوع. فإن كانت ذاتيّة فالقضيّة أوّليّة، والعلم بها علم قبلي من القسم الأوّل. وإن كانت ناشئة عن سبب فالقضيّة ثانويّة مستنبطة، والعلم بها علم قبلي من القسم الثاني، والعقل يدركها نتيجة لإدراك ذلك السبب الذي نشأت عنه ضرورة ثبوت المحمول للموضوع، ويسمّى ذلك السبب في لغة المنطق الأرسطي بالحدّ الأوسط.
وفي هذا الضوء نأخذ العلم الإجمالي بأنّ الصداع سوف لن يوجد صدفة في مرّة واحدة على الأقلّ خلال عشر تجارب، لندرس مدى إمكان قبوله علماً عقليّاً قبليّاً- كما يدّعي المنطق الأرسطي- إذا افترضناه علماً إجماليّاً يقوم على أساس الاشتباه.
إنّ هذا العلم الإجمالي إذا كان يقوم على أساس الاشتباه فهو مرتبط- كما عرفنا سابقاً- بصدفة محدّدة في الواقع، ومردّ العلم عندئذٍ إلى العلم بعدم وقوع تلك الصدفة، غير أنّ عجزنا عن تحديدها جعل علمنا غير محدّد، أي جعله علماً إجماليّاً بعدم وقوع صدفة واحدة على الأقلّ خلال عشر تجارب مثلًا.
ويمكننا عندئذٍ أن نبرهن للمنطق الأرسطي بأنّ هذا العلم ليس عقليّاً قبليّاً؛ لأ نّنا نتساءل أنّ هذا العلم هل يعني عدم وقوع تلك الصدفة الخاصّة أو ضرورة عدم وقوعها؟ فإن كان يعني عدم الوقوع فحسب، فليس علماً عقليّاً قبليّاً؛ لما تقدّم من أنّ العلوم العقليّة القبليّة في رأي المنطق الأرسطي يجب أن تكشف عن ضرورة ثبوت المحمول للموضوع أو نفيه عنه، ولا يكفي كشفها عن مجرّد

81

ولا توجد أيّ صدفة يمكن أن نشير إليها بطريقة غامضة وبصورة غير محدّدة تكون هي الأساس الحقيقي للعلم الإجمالي، كما كانت حادثة الوفاة التي نشير إليها بطريقة غامضة- باعتبارها الحادثة التي أخبر بها من لا يكذب- هي الأساس الحقيقي للعلم الإجمالي بأنّ إنساناً مات، ومن أجل هذا نلاحظ أنّ العلم الإجمالي بعدم وجود صدفة واحدة على الأقلّ على الخطّ الطويل لا يزول مهما فرضنا الشكّ في أيّ صدفة نشير إليها بطريقة غامضة أو محدّدة، بينما كان العلم الإجمالي بوفاة إنسانٍ مّا يزول إذا طرأ الشكّ في حادثة الوفاة التي أخبر عنها من لا يكذب.

الاعتراض الرابع [على أساس التشابه‏]:

نريد في هذا الاعتراض أن ندحض- أيضاً- فكرة وجود علم إجمالي قبلي قائم على أساس التشابه والاشتباه، أي نثبت أنّ ما يفترضه المبدأ الأرسطي من العلم بعدم وقوع الصدفة في مرّة واحدة على الأقلّ خلال عشر تجارب مثلًا، ليس علماً إجماليّاً قبليّاً قائماً على أساس التشابه والاشتباه.
ولكي تتّضح هذه المحاولة يجب أن نعرف ما يقصده المنطق الأرسطي من العلوم القبليّة، أي العلوم العقليّة المستقلّة عن الحسّ والتجربة.
إنّ العلم العقلي القبلي في المنطق الأرسطي قسمان:
أحدهما: يضمّ العلوم العقليّة الأوّليّة التي تشكّل المنطلقات الأساسيّة للمعرفة البشريّة.
والآخر: يضمّ العلوم العقليّة الناتجة عن تلك العلوم، وهي العلوم التي تحصل عن طريق البرهان المستمدّ من العلوم الأوّليّة.
والعلوم القبليّة في كلا القسمين تخضع جميعاً لشرط أساسي في المنطق‏

80

أساس الاشتباه، وهي أنّ هذا العلم لمّا كان نتيجة لواقعة محدّدة إيجابيّة أو سلبيّة (نقصد بالواقعة الإيجابيّة وجود شي‏ء وبالواقعة السلبيّة عدمه) وقد نشأ العلم الإجمالي على أساس اشتباه تلك الواقعة وعدم تميّزها عن وقائع اخرى، فهو مرتبط بتلك الواقعة المحدّدة في الواقع، وإن كان عاجزاً عن تعيينها، وإنّما يشار إليها دائماً بطريقة غامضة وبصورة غير محدّدة. فمثلًا: إذا أخبَرَنا من لا يكذب بأنّ شخصاً معيّناً قد مات، وذكر اسمه، غير أ نّنا لم نسمع الاسم بالضبط، ولم ندرِ هل ذكر اسم سعيد أو خالد، ففي هذه الحالة ينشأ لدينا علم إجمالي بأنّ إنساناً واحداً على الأقلّ قد مات، وهذا العلم مرتبط بحادثة الوفاة المحدّدة في الواقع التي أخبر عنها من لا يكذب والتي لا نملك التعبير عنها إلّابهذه الطريقة الغامضة، وهذا يعني أ نّا كلّما توفّر لدينا أيّ مبرّر للشكّ في حادثة الوفاة تلك، التي نشير إليها بطريقة غامضة، فسوف يزول العلم الإجمالي بوفاة إنسانٍ مّا.

فالعلم الإجمالي الذي يقوم على أساس الاشتباه، يرتبط دائماً بواقعة محدّدة في الواقع يشار إليها بطريقة غامضة وبصورة غير محدّدة، ويكون أيّ شكّ في تلك الواقعة، سبباً لزوال العلم الإجمالي.

وإذا لاحظنا في هذا الضوء ما يفترضه المنطق الأرسطي من العلم الإجمالي بأنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر باستمرار على خطّ طويل- أي أ نّها غير موجودة في مرّة واحدة على الأقلّ خلال عشر تجارب مثلًا- نجد أنّ هذا العلم لا يرتبط بنفي صدفة محدّدة في الواقع‏[1]، وهذا يوضّح أنّ العلم الإجمالي بأنّ واحدة على الأقلّ من الصدف النسبيّة على خطّ طويل غير موجودة لا يقوم على أساس الاشتباه.

 

[1] وبتعبير آخر: إنّ المعلوم بالإجمال ليس معيّناً حتّى في ذات الواقع( لجنة التحقيق)

79

لبناً فنحن على ثقة بأ نّه سوف لن يقترن ذلك بظهور الصداع صدفة في جميع الأشخاص الذين اخترناهم عشوائيّاً، ولكنّا في نفس الوقت لا نستطيع أن نؤكّد القضيّة الشرطيّة القائلة: لو كان هؤلاء الذين اخترناهم عشوائيّاً تتوفّر لديهم عوامل الصداع لما ظهر الصداع في جميعهم من أجل التمانع والتضادّ بين الصدف النسبيّة المتماثلة.
وهكذا نلاحظ أ نّنا كلّما استمددنا ثقتنا بعدم اجتماع مجموعة من الأشياء من الاعتقاد بالتمانع والتضادّ بينها، نجد أنفسنا متأكّدين من عدم اجتماع أفراد تلك المجموعة حتّى في حالة توفّر المقتضي لوجود كلّ واحد منها، وفي مجال الصدف النسبيّة- رغم اعتقادنا عادةً بأ نّها لا تجتمع بصورة متماثلة- لا نعتقد بعدم الاجتماع حتّى في حالة توفّر المقتضي لوجود الصداع في كلّ واحد من الأفراد المختارين عشوائيّاً، بل نحن متأكّدون من القضيّة الشرطيّة القائلة:
لو كان لدى كلّ واحد من هؤلاء المقتضي الكافي لإيجاد الصداع لاجتمعت الصدف النسبيّة المتماثلة، ولاقترن الصداع بشرب اللبن صدفة في كلّ اولئك الأفراد.
وهذا يعني أنّ ثقتنا الاعتيادية بأنّ اقتران ظهور الصداع بشرب اللبن لا يتكرّر باستمرار على خطّ طويل لم تنشأ من الاعتقاد بالتضادّ والتمانع بين مجموعة الاقترانات المتماثلة.

الاعتراض الثالث [على أساس التشابه‏]:

في هذا الاعتراض نريد أن نبرهن على أنّ العلم الإجمالي الذي يمثّله المبدأ الأرسطي ليس قائماً على أساس التشابه والاشتباه.
ومن أجل هذا يجب أن ندرك ميزة أساسيّة في كلّ علم إجمالي يقوم على‏

78

يكون العيش في المنطقة الجبليّة من عوامل السواد. وفي هذه الحالة لا يمكن أن نستنتج سببيّة شكل الغراب للسواد؛ لأنّ بديل افتراض هذه السببيّة هو افتراض سببيّة المنطقة الجبليّة للسواد، لا وجود اقتران مستوعب على أساس الصدفة.
ونستخلص ممّا تقدّم أنّ فرضيّة التضادّ إن طبّقت على نفس الاقترانات المتكرّرة بين (أ) و (ب) أو الاقترانات المتكرّرة بين الاختيار العشوائي ل (أ) و (ب) فهي خطأ بالإمكان دحضه. وإن طبّقت على الاقتران المستوعب بين (ح) و (ب) فلا نملك مثالًا من الطبيعة لدحضه، ولكنّها ضمن هذه الحدود لا تصلح أساساً لتفسير الدليل الاستقرائي في كثير من الأحيان؛ لأنّ كثيراً من الاستقراءات نتوصّل عن طريقها إلى تعميمات على أساس ملاحظة مجموعة مختلطة من الأفراد. وبتعبير آخر: إنّ الاستدلال الاستقرائي السليم على سببيّة (أ) ل (ب) يتوقّف على أن نلاحظ خلال التجربة اقتران (أ) ب (ب) في عدد كبير من الأفراد، ولا يتوقّف على افتراض (ح).

الاعتراض الثاني [على أساس التمانع‏]:

في كلّ حالة نواجه فيها التضادّ والتمانع بين مجموعة من الأشياء، نستطيع أن نؤكّد القضيّة الشرطيّة القائلة: لو وجدت الدوافع والعوامل الكافية لإيجاد تلك الأشياء فلا يمكن أن توجد جميعاً نتيجةً للتمانع والتضادّ بينها، فإذا كانت مساحة الغرفة لا تسع عشرة أشخاص أمكننا أن نؤكّد أنّ عشرة أشخاص حتّى لو توفّر لدى كلّ واحد منهم الدافع إلى دخول الغرفة لا يتاح لهم دخولها مجتمعين، من أجل التمانع والتضادّ الناتج عن ضيق مساحة الغرفة.
وحينما نلاحظ موقفنا من تكرّر الصدفة النسبيّة، نجد أ نّنا واثقون عادة بأ نّها لا تتكرّر على خطّ طويل، فإذا اخترنا أفراداً بصورة عشوائيّة وأعطيناهم‏

77

القاطنة في المناطق الجبليّة عوامل السواد دون عوامل البياض، ما دمنا نعلم أنّ نفس سكنى المنطقة الجبليّة ليس من عوامل السواد.
ونلاحظ في هذا الضوء أنّ فرضيّة التضادّ بصورتها الأخيرة، إنّما تصلح أساساً لتفسير الاستدلال الاستقرائي إذا توفّر:
أوّلًا: اقتران مستوعب، بمعنى أن يكون لدينا إضافة إلى (أ) و (ب) شي‏ء ثالث وهو (ح)، وتكون الأفراد المستقرأة من (أ) هي كلّ الأفراد التي تنتمي إلى (ح) بينما ليست هي كلّ الأفراد التي تنتمي إلى (أ).
وثانياً: علم مسبق بأنّ (ح) ليس له أثر في تكوين (ب).
ففي حالة توفّر هذين الشرطين نجد أمامنا أحد أمرين: فإمّا أن يكون (أ) سبباً ل (ب) فلا صدفة في اقتران (ح) ب (ب) باستمرار. وإمّا أن لا يكون (أ) سبباً ل (ب) فيكون اقتران (ح) ب (ب) اقتراناً مستوعباً لكلّ أفراد (ح) على أساس الصدفة، وفرضيّة التضادّ بصورتها التي افترضناها تنفي هذه الصدفة المستوعبة، فنستخلص من ذلك أنّ (أ) سبب ل (ب).
وإذا لم يتوفّر الشرط الأوّل، كما إذا لم نستوعب في فحصنا للغربان كلّ غربان المناطق الجبليّة، وإنّما التقطنا مجموعة مختلطة من الغربان دون تحديد، فوجدناها سوداء، فلا ضرورة إلى افتراض سببيّة شكل الغراب للسواد؛ لأنّ افتراض عدم سببيّة (أ) ل (ب) لا يعني قيام اقتران مستوعب على أساس الصدفة، وإنّما يعني تكرّر الاقتران الموضوعي بين شكل الغراب والسواد صدفة وتكرّر الاقتران الذاتي بين الاختيار العشوائي والسواد. ولا استحالة في تكرّر هذين الاقترانين كما عرفنا.
وإذا توفّر الشرط الأوّل، واستوعبنا في فحصنا للغربان كلّ غربان المناطق الجبليّة، فوجدناها سوداء، ولكن لم يتوفّر الشرط الثاني، فهذا يعني أ نّا نحتمل أن‏

76

وفرضيّة التضادّ بين الصدف النسبيّة بصورتها هذه وإن كانت تعطي تبريراً افتراضيّاً لبعض الاستقراءات، ولكنّها لا يمكن أن تفسّر كلّ الاستقراءات المقبولة التي نحتاج إلى تفسيرها.
فنحن قد نواجه ثلاث ظواهر: (أ) و (ب) و (ح)، ونتأكّد من اقتران كلّ أفراد (ح) ب (ب) التي هي في نفس الوقت أفراد ل (أ) وتظلّ أفراد اخرى ل (أ) لا نعلم عن اقترانها ب (ب) شيئاً، وفي هذه الحالة إذا افترضنا العلم مسبقاً بأنّ (ح) لا أثر له في إيجاد (ب) فسوف يكون بإمكان فرضيّة التضادّ بصورتها الأخيرة، أن تفسّر لنا الطريقة التي بها نثبت سببيّة (أ) ل (ب) ونصل إلى التعميم الاستقرائي القائل: كلّ (أ) تقترن ب (ب)؛ لأنّ (أ) لو لم تكن سبباً ل (ب) وكانت تقترن ب (ب) تارة وتقترن بعدمه اخرى حسب الظروف والملابسات، لكان معنى ذلك أنّ اقتران (ح) باستمرار ب (ب) مستحيل بحكم فرضيّة التضادّ؛ لأ نّه يعني في حالة عدم سببيّة (أ) ل (ب) صدفاً نسبيّة تمثّل اقتراناً موضوعيّاً مستوعباً.
فإذا كان (أ) هو شكل الغراب و (ح) هو سكناه في المناطق الجبليّة و (ب) هو السواد، وافترضنا أنّ الاستقراء شمل كلّ الغربان التي تسكن في المناطق الجبليّة، وكنّا نعلم مسبقاً بأنّ سكنى هذه المناطق لا أثر لها في السواد، فسوف نحصل على الشروط التي تتيح لفرضيّة التضادّ بصورتها الأخيرة، أن تبرّر التعميم الاستقرائي القائل: كلّ غراب أسود؛ لأنّ شكل الغراب إذا كان سبباً للسواد، فلا يوجد أيّ صدفة فيما لاحظناه من اقتران سكنى الغراب للمناطق الجبليّة مع السواد، ما دام كلّ غراب أسود. وأمّا إذا كان الغراب يتّصف بالسواد تارة وبالبياض اخرى حسب الظروف والملابسات، فسوف نحصل على اقتران مستوعب يقوم على أساس الصدفة؛ إذ يكون من الصدفة أن تتوفّر لجميع الغربان‏

75

أيضاً ما يبرّر استحالة تكرّره؛ لأنّا لو افترضنا أنّ الاقتران الذاتي لا يتكرّر عشر مرّات مثلًا، للتضادّ بين الاقترانات الذاتيّة المتتالية، لكان معناه أ نّا حينما نختار عشوائيّاً تسعة غربان ويبدو أ نّها سوداء، سوف يهرب منّا أيّ غراب آخر أسود، حرصاً على أن لا تتكرّر الصدفة النسبيّة عشر مرّات.
ويمكن أن ندخل في الموقف اقتراناً ثالثاً، وذلك بأن نفترض في مثال الغربان أ نّا فحصنا كلّ الغربان التي تسكن في المناطق الجبليّة، دون الغربان القاطنة في المناطق الساحليّة. ففي هذه الفرضيّة يوجد اقتران موضوعي جديد، وهو اقتران العيش في منطقة جبليّة مع السواد. ويتميّز هذا الاقتران عن الاقتران الموضوعيّ السابق بين شكل الغراب والسواد بأ نّه مستوعب، بمعنى أنّ كلّ غربان المناطق الجبليّة، قد لوحظ اقترانها بالسواد بينما لم يلحظ في الاقتران الموضوعي السابق اقتران كلّ غراب بالسواد.
ويمكن للمنطق الأرسطي أن يحصل على تطبيق أفضل لفرضيّة التضادّ، إذا خصّ التضادّ بالصدف النسبيّة المتماثلة التي تمثّل اقتراناً موضوعيّاً مستوعباً.
فليس المهمّ عدد الصدف النسبيّة المتماثلة، بل استيعابها لكلّ الأفراد التي تنتمي إلى إحدى الظاهرتين. فكلّما كانت هناك ظاهرتان (ح) و (ب) ولوحظ أنّ كلّ الأفراد التي تنتمي إلى (ح) تقترن ب (ب) فمن المستحيل أن يكون اقتران (ب) و (ح) صدفة. وأمّا إذا لوحظ فقط أنّ عدداً من الأفراد التي تنتمي إلى (ح) تقترن ب (ب) فلا توجد استحالة في أن تكون هذه الاقترانات صدفة.
وحينما تحدّد فرضيّة التضادّ بين الصدف النسبيّة المتماثلة على هذا النحو، يكون من الصعب دحضها؛ إذ لا يمكن أن نحصل من الطبيعة على مثال اقترنت فيها كلّ الأفراد التي تنتمي إلى ظاهرة بظاهرة اخرى، دون رابطة سببيّة، وعلى سبيل الصدفة.

74

فهي أيضاً لا يوجد بينها تضادّ أو تمانع في إدراكنا؛ لأنّ فرضيّة التضادّ إذا حاولنا تطبيقها على هذه الاقترانات الذاتيّة، كان معناها حينما نفترض أنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر عشر مرّات مثلًا، أنّ بإمكان المجرّب أن يختار عشوائيّاً تسعة أشخاص، ممّن تتوفّر فيهم مسبقاً شروط ظهور الصداع، ولكن إذا وقع اختياره عشوائيّاً على تسعة من هذا القبيل على سبيل التتابع، فسوف يعجز عن الاختيار العشوائي لأيّ فرد آخر تتوفّر فيه نفس الشروط، لا لشي‏ء إلّامن أجل أن لا تتكرّر الصدفة النسبيّة عشر مرّات بصورة متتابعة. فكأنّ شروط الصداع يصبح وجودها لدى أيّ إنسان- بعد الاختيار العشوائي لتسعة مصابين بأعراض الصداع- سبباً لعجز الممارس للتجربة عن اختياره، ولا يوجد إنسان يزعم أ نّه يدرك شيئاً من هذا القبيل لكي يصحّ أن تتّخذ فرضيّة التضادّ أساساً لتفسير العلم الإجمالي الأرسطي.
والشي‏ء نفسه نقوله في مجال الاستقراء القائم على أساس الملاحظة والتعداد البسيط، فإذا اخترنا عشوائيّاً عدداً من الغربان، فوجدناها سوداء، نلاحظ اقتراناً موضوعيّاً بين الشكل المعيّن للطائر- الذي نرمز إليه باسم الغراب- والسواد، واقتراناً ذاتيّاً بين الاختيار العشوائي للغراب وكونه أسود. ولا استحالة في أن يتكرّر أيّ واحد من هذين الاقترانين دون رابطة سببيّة بين شكل الغراب والسواد.
أمّا الاقتران الموضوعي بين شكل الغراب والسواد، فبإمكاننا أن نحقّق نظيره بصورة متكرّرة في حالات لا توجد فيها رابطة سببيّة بين الشكل والسواد.
ففي ميسور أيّ إنسان أن يختار بصورة واعية، عدداً كبيراً من الدجاج الأسود كمثال للاقتران المتكرّر بين الشكل واللون، دون رابطة السببيّة.
وأمّا الاقتران الذاتي بين الاختيار العشوائي للغراب والسواد، فلا يوجد