کتابخانه
109

الاتجاه الثاني ونزعته الترجيحيّة

يؤمن الاتجاه الثاني في المذهب التجريبي بأنّ التعميم الاستقرائي يحتاج إلى افتراض قضايا ومصادرات يجب إثباتها بصورة منفصلة عن الاستقراء، ويؤمن في الوقت نفسه بأنّ إثبات تلك المصادرات غير ممكن لا بالطريقة التي حاولها المذهب العقلي- حيث اعتقد بأ نّها قضايا عقليّة قبليّة- ولا بالطريقة التي حاولها الاتجاه السابق للمذهب التجريبي حيث اعتقد بأ نّها بدورها نتائج لاستقراءات سابقة. وما دام إثبات تلك المصادرات غير ممكن، فلا يتاح لأيّ استدلال استقرائي أن يؤدّي إلى اليقين بالقضيّة الاستقرائيّة، وإنّما يقتصر دوره على تنمية احتمالها، فكلّ تجربة في سياق الاستقراء تساهم في تنمية قيمة احتمال القضيّة الاستقرائيّة، ولهذا يتناسب احتمالها طرداً مع عدد ما يشتمل عليه الاستقراء من تجارب وشواهد.

وأظنّ أنّ من المفيد أن أقتطع هنا فقرات من كلام للدكتور زكي نجيب محمود[1] يوضّح فيه موقفه من مشكلة الاستقراء، وهو موقف يمثّل هذا الاتجاه‏

 

[1] مفكّر مصريّ عاش:( 1905- 1993 م). نال درجة الدكتوراه في الفلسفة في موضوع-

108

دورها في الاستدلال الاستقرائي منطقياً نجد أ نّها تتّجه جميعاً إلى علاج المشكلة الثانية من مشاكل الاستقراء الثلاث، ومقاومة احتمال الصدفة النسبيّة، أي احتمال (ت) المجهولة. فكما وضع المنطق الأرسطي مبدأه القائل: «إنّ الاتفاق لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً» لمقاومة هذا الاحتمال، كذلك وضع ستيورت مل طرقه الأربع لمقاومة نفس الاحتمال.
ولكنّ هذه الطرق الأربع لا تستطيع أن تفسّر لنا كيف يقضى على احتمال (ت) نهائيّاً؛ لأنّ أقصى ما تنجزه هو أ نّها تربط افتراض (ت) بافتراض امور كثيرة، فيتضاءل بذلك احتمال (ت)؛ لأنّه يعبّر عندئذٍ عن حاصل ضرب قيم احتمالات تلك الامور الكثيرة بعضها ببعض، وحاصل ضرب هذه القيم الاحتماليّة- مهما كان ضئيلًا- لا يصل إلى الصفر بحال من الأحوال.

107

ضوئه، وفعلًا كشف بعد ذلك أحد علماء الفلك عن نبتون، وهو اسم الكوكب الجديد.
ورغم أنّ الصيغة التي وضعت للتعبير عن هذه الطريقة ناقصة فإنّ تطبيقها على اكتشاف نبتون يعطينا الصورة التالية عنها:
إنّ العلماء حينما واجهوا انحراف مدار يورانوس عن الموقع الذي تحدّده نظريّة الجاذبيّة- على افتراض أن لا يوجد كوكب آخر في موقع نبتون- كان أمامهم افتراضان:
أحدهما: أنّ نظريّة الجاذبيّة صحيحة، وأنّ هذا الانحراف ينشأ من وجود كوكب آخر، بالشكل الذي يتيح لنظريّة الجاذبيّة أن تفسّر ذلك الانحراف.
والآخر: أ نّه لا وجود لكوكب آخر، وأنّ هذا الانحراف يتعارض مع نظريّة الجاذبيّة، وهذا يعني أنّ النظريّة غير صحيحة.
وقد رجّح العلماء نظريّاً الافتراض الأوّل على الافتراض الثاني، وذلك لأنّ عدداً كبيراً من الظواهر كان منسجماً كلّ الانسجام مع التقديرات التي تفرضها نظريّة الجاذبيّة، وهذا الانسجام يجب أن يفسَّر عند الأخذ بالافتراض الثاني من الافتراضين السابقين بأ نّه صدفة، وأنّ هناك (ت) مجهولة هي الموجّه الحقيقي لتلك الظواهر دون قانون الجاذبيّة. ومن الواضح أ نّه كلّما ازدادت تلك الظواهر التي ثبت علميّاً انسجامها مع قانون الجاذبيّة، ضعف احتمال تفسير كلّ هذا الانسجام على أساس (ت) المجهولة، وكبر احتمال الأخذ بالافتراض الأوّل من الافتراضين السابقين.
وهكذا نجد- عند تحليل طريقة البواقي- أ نّها اسلوب آخر في التقليل من درجة احتمال (ت).
ونستخلص ممّا تقدّم أنّ الطرق الأربعة التي وضعها ستيورت مل إذا حلّلنا

106

إرجاع جميع النتائج في المجموعة الثانية- ما عدا نتيجة واحدة- إلى جميع المقدّمات في المجموعة الاولى- ما عدا مقدّمة واحدة- فمن المرجّح أن توجد علاقة بين المقدّمة والنتيجة الباقيتين.

وقد قيل: إنّ هذه الطريقة هي التي أتاحت للعلماء الفلكيين أن يكتشفوا نظريّاً كوكباً اطلق عليه فيما بعد اسم «نبتون‏[1]»؛ لأنّهم آمنوا بنظريّة الجاذبيّة التي تحدّد موقع أيّ كوكب وفقاً لقوانين الجاذبيّة، ولاحظوا في ضوء ذلك انحرافاً في مدار الكوكب «يورانوس‏[2]» عن الموقع الذي تفترضه نظريّة الجاذبيّة، فهذا الفارق بين النظريّة والواقع هو الظاهرة الباقية التي يجب تفسيرها. فوضع (لوفرييه‏[3]) الفرض الآتي، وهو: أنّ هذا الاضطراب في مدار يورانوس يرجع إلى وجود كوكب سيّار آخر مجهول لا يقع تحت ملاحظتنا بسبب شدّة بعده وقلّة

 

[1] (Neptune ): ثامن كواكب المجموعة الشمسيّة بعداً عن الشمس، لا يرى بالعين المجرّدة، كان اكتشافه نتيجةً لدراسة عدم انتظام حركة الكوكب« اورانوس» قام« جون آدامز» و« أوربان لوفرييه» بحساب مواقعه، وعثر عليه« جوهان جوتفريد جال»(Johann Gottfried Gall ) في عام( 1846 م)( لجنة التحقيق)

[2] (Uranus ): سابع كواكب المجموعة الشمسيّة بعداً عن الشمس وأكبرها حجماً، وهو أكبر كوكب تمّ اكتشافه عبر« التلسكوب» عام( 1781 م) بفضل الفلكي« وليَم هرشل»(William Herschel ). كان لعدم انتظام حركته الفضل في اكتشاف الكوكب« نبتون»( لجنة التحقيق)

[3] « أوربان لوفرييه»:(Urbain Le Verrier ):( 1811- 1877 م): فلكيّ فرنسي، عمل على تحسين الجداول الفلكيّة لكوكب« عطارد» وقد آمن بوجود كوكب أقرب إلى الشمس من« عطارد» أسماه« فالكان». أدّت حساباته الرياضيّة إلى اكتشاف كوكب« نبتون» عام( 1846 م)( لجنة التحقيق)

105

اكتشاف علاقة سببيّة بين الظاهرتين.

وهذه الطريقة ينحصر دورها أيضاً في التقليل من احتمال (ت)؛ لأنّنا إذا درسنا إحدى الحالات ووجدنا تناسباً بين التغيّر الذي طرأ على ظاهرة (أ) والتغيّر الذي طرأ على ظاهرة (ب) واجهنا احتمال أنّ هذا التناسب صدفة، وأن يكون التغيّر الطارئ على (ب) مرتبطاً بسبب آخر لا صلة له ب (أ)، ولكن إذا وجدنا التناسب نفسه بين كلّ درجات التغيّر الملحوظة في حالات عديدة فسوف يتضاءل باستمرار احتمال (ت) ويكبر احتمال السببيّة بين (أ) و (ب).

وليست طريقة التلازم في التغيّر، إلّاشكلًا معقّداً من أشكال طريقة الاتفاق‏[1]؛ لأنّ طريقة التلازم في التغيّر تستبطن وجود ظرف مشترك بين الحالات العديدة لوجود (ب) وهو (أ)، وهذا هو ما تعنيه طريقة الاتفاق، غير أنّ طريقة التلازم في التغيّر تضيف إلى ذلك: أنّ هذا العنصر المشترك له درجات، وأنّ نفس الظاهرة الملحوظة وهي (ب) لها درجات أيضاً، وأنّ تناسباً معيّناً بينهما يشمل كلّ الحالات التي تدخل في نطاق الاستقراء.

رابعاً- طريقة البواقي‏[2]:

وقد حُدّدت هذه الطريقة على النحو الآتي:

إذا أدّت مجموعة من المقدّمات إلى مجموعة اخرى من النتائج، وأمكن‏

 

[1] وبتعبير أدقّ: إنّها شكل مركّب من طريقة الاتّفاق وطريقة الاختلاف، لأنّها تستبطن- من ناحية- وجود ظرف مشترك بين الحالات، وهو مقدار ما يتواجد من( أ) في كلّ الحالات، وتستبطن- من ناحية اخرى- افتراض تخلّف بعض درجات( ب) عند تخلّف تلك الدرجة من( أ)( لجنة التحقيق)

[2] (Method of Residues )

104

الاختلاف: أنّ الحالتين متّفقتان في كلّ الظروف التي اتيح للمستقرئ أن يستوعبها في ملاحظته، باستثناء ظرف واحد.

وهذه الطريقة- كالطريقة السابقة- تقتصر وظيفتها على علاج المشكلة الثانية والتقليل من احتمال الصدفة النسبيّة؛ لأنّنا حين نواجه الحالة الاولى التي وجد فيها (ب) ونستوعب عدداً من ظروفها- بما في ذلك (أ)- لا نستطيع أن نمنح صفة السببيّة لواحد من تلك الظروف دون الآخر، ولذلك لا يمكن أن نعتبر (أ) هو السبب؛ لأنّ وجود (ت) محتمل ما دام من الممكن أن يكون أيّ واحد من الظروف الاخرى التي لاحظناها (ت). فإذا واجهنا بعد ذلك الحالة الثانية أمكننا أن نتأكّد من أنّ أيّ ظرف وجد في كلتا الحالتين لا يمكن أن يقوم بدور (ت)، وأن يكون هو السبب ل (ب)، وبهذا يتناقص احتمال (ت) بقدر ما نثبت اشتراك الحالة الثانية مع الاولى في الظروف.

ثالثاً- طريقة التلازم في التغيّر[1]:

وقد حدّد مل هذه الطريقة على النحو الآتي:

إنّ الظاهرة التي تتغيّر على نحو مّا كلّما تغيّرت ظاهرة اخرى على نحو خاصّ، تعدّ مرتبطة بتلك الظاهرة بنوع من العلاقة السببيّة. فإذا كانت لدينا ظاهرتان، ودرسنا إحداهما في حالات مختلفة فوجدنا أ نّها موجودة على درجات متفاوتة في تلك الحالات، ولاحظنا أنّ الظاهرة الاخرى موجودة في جميع تلك الحالات، وأنّ تغيّرات معيّنة تطرأ عليها تتناسب مع التغيّرات التي تطرأ على الظاهرة الاولى وتحدّد درجتها، فسوف نخرج من ذلك بنتيجة: وهي‏

 

[1] (Method of Concomitant Variations )

103

بين (ب) وأحد الظرفين: (ل) أو (م) تبريراً للحالة الثانية، وافتراض علاقة سببيّة ثالثة بين (ب) و (ط) أو (د) [تبريراً للحالة الثالثة]. ومن الواضح أنّ الاحتمال الواحد أكبر قيمة من مجموعة احتمالات ثلاثة يساوي كلّ واحد منها ذلك الاحتمال الواحد.

وهكذا نجد أنّ هذه الطريقة، يقتصر دورها على مواجهة المشكلة الثانية من مشاكل الاستقراء وتمكِّننا من التقليل من درجة احتمال وجود التاء، أي احتمال الصدفة النسبيّة.

ثانياً- طريقة الاختلاف‏[1]:

وهي طريقة يكون فيها المستقرئ بين حالتين متشابهتين في جميع الظروف ما عدا ظرفاً واحداً، وقد وجدت الظاهرة في إحداهما ولم توجد في الاخرى. فيستنتج من ذلك أنّ ذلك الظرف الوحيد الذي وجد في إحدى الحالتين دون الاخرى هو سبب الظاهرة.

فإذا قلنا مثلًا: إنّ الظاهرة المراد تفسيرها (ب) وأ نّها وجدت في الحالة الاولى التي تشتمل على الظروف: (ك) (ل) (م) (أ) ولم توجد في الحالة الثانية التي تشتمل على الظروف: (ك) (ل) (م) فمن المرجّح أن يكون الظرف (أ) هو السبب في وجود الظاهرة (ب).

ولا تعني هذه الطريقة أنّ الحالتين متشابهتان باستثناء ظرف واحد في جميع الظروف الواقعيّة التي رافقت كلتا الحالتين؛ لأنّ المستقرئ لا يمكنه عادة أن يتأكّد من استيعابه في الملاحظة لكلّ الظروف الواقعيّة، وإنّما تعني طريقة

 

[1] (Method of Defference )

102
أوّلًا- طريقة الاتفاق‏[1]:

وقد حدّد (مل) القاعدة التي تعبّر عن هذه الطريقة على النحو الآتي:

إذا اتفقت حالتان أو أكثر للظاهرة المراد بحثها في ظرف واحد فقط، فهذا الظرف الوحيد الذي تتّفق فيه جميع هذه الحالات هو السبب في هذه الظاهرة.

فإذا قلنا: إنّ الظاهرة المراد تفسيرها هي (ب) وأ نّها تسبق أو تصحب في الحالة الاولى بالظروف: (أ، ك، ج) وفي الحالة الثانية بالظروف: (ل، م، أ) وفي الحالة الثالثة بالظروف: (ط، أ، د) فالظرف الوحيد المشترك بين هذه الحالات الثلاث وهو (أ) يعدّ سبباً ل (ب).

وهذه الطريقة إذا اردنا أن ندرسها- بعمق- ونفسّر دورها الذي تقوم به، نستطيع أن نكتشف بوضوح أ نّها تعالج في الحقيقة مشكلة احتمال الصدفة النسبيّة (أي احتمال التاء). ففي الحالة الاولى للظاهرة (ب) وإن كنّا نجد أنّ (ب) قد وجدت عقيب (أ) ولكنّنا نواجه بدرجة كبيرة احتمال التاء، إذ كما يمكن أن يكون السبب لوجود (ب) هو (أ) كذلك يمكن أن يكون السبب في ذلك (ك) أو (ج)، ولكنّا حينما نلاحظ الحالة الثانية ثمّ الثالثة إلى جانب الحالة الاولى يضعف بالتدريج احتمال أن تكون (ب) مرتبطة سببيّاً بغير (أ) ويكبر احتمال ارتباطها السببي ب (أ)؛ لأنّ ارتباطها السببي ب (أ) لا يفترض إلّاعلاقة سببيّة واحدة، وهي علاقة تقوم بين (أ) و (ب)، وأمّا ارتباطها السببي بغير (أ) فهو يفترض ثلاث علاقات سببيّة، إذ لا بدّ في حالة استبعاد (أ) من افتراض علاقة السببيّة بين (ب) وأحد الظرفين: (ك) أو (ج) تبريراً للحالة الاولى، وافتراض علاقة سببيّة اخرى‏

 

[1] (Method of Agreement )

101

الشروط. ومن الواضح أ نّه لا يقصد بذلك أنّ أيّ ظاهرتين إذا وجدت إحداهما عقيب الاخرى مرّة واحدة فسوف يستمرّ هذا التتابع بينهما دائماً، إذ كثيراً ما تحدث ظاهرة عقيب ظاهرة اخرى صدفةً ولا يتكرّر وجودهما معاً بعد ذلك.
فلا بدّ أن يراد بقضيّة الاطراد أنّ أيّ ظاهرتين وجدت إحداهما عقيب الاخرى في عدد كبير من المرّات فسوف يطّرد وجود إحداهما عقيب الاخرى دائماً. وبذلك نصل إلى شي‏ء شبيه تماماً بالمبدأ الأرسطي القائل: بأنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر على خطّ طويل، غير أنّ المبدأ الأرسطي قضيّة عقليّة قبليّة في رأي الأرسطيّين، وقضيّة الاطّراد استقرائيّة في رأي المنطق التجريبي.

الطرق الأربعة في مواجهة المشكلة الثانية:

وقد قدّم لنا (ستيورت مل) في منطقه التجريبي طرقاً عديدة نصح باستعمالها للتأكّد من وجود السببيّة بين الظاهرتين اللتين نحاول اكتشاف نوع العلاقة بينهما.
وهذه الطرق كلّها ترتبط بالمشكلة الثانية من مشاكل الاستقراء الثلاث، فهي في الواقع طرق لاستبعاد احتمال الصدفة النسبيّة، فنحن حينما نقوم بإيجاد الألف فيوجد الباء نواجه احتمال أن تكون هناك تاء مجهولة، وأن تكون هذه التاء هي سبب الباء بدلًا عن الألف (أي أن يكون ذلك الشي‏ء الذي تقترن به الباء باستمرار هو التاء لا الألف).
ففي هذه الحالة يمكن للطرق التي اقترحها (ستيورت مل) أن تقوم بدور كبير في التقليل من درجة هذا الاحتمال، ولكنّها على أيّ حال لا تفسّر إمكانيّة القضاء على هذا الاحتمال نهائيّاً. وسوف نستعرض فيما يلي هذه الطرق لكي نحدّد دورها في الدليل الاستقرائي: