کتابخانه
55

رسالة الدين:

ويقوم الدين هنا برسالته الكبرى التي لا يمكن أن يضطلع بأعبائها غيره، ولا أن تحقِّق أهدافها البنّاءة وأغراضها الرشيدة إلّاعلى اسسه وقواعده، فيربط بين المقياس الخُلُقي الذي يضعه للإنسان وحبّ الذات المتركّز في فطرته.
وفي تعبير آخر: إنّ الدين يوحِّد بين المقياس الفطري للعمل والحياة وهو:
حبّ الذات، والمقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل والحياة؛ ليضمن السعادة والرفاه والعدالة.
إنّ المقياس الفطري يتطلّب من الإنسان أن يقدّم مصالحه الذاتية على مصالح المجتمع ومقوِّمات التماسك فيه، والمقياس الذي ينبغي أن يحكم ويسود هو: المقياس الذي تتعادل في حسابه المصالح كلّها، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية.
فكيف يتمّ التوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين؛ لتعود الطبيعة الإنسانية في الفرد عاملًا من عوامل الخير والسعادة للمجموع، بعد أن كانت مثار المأساة والنزعة التي تتفنّن في الأنانية وأشكالها؟
إنّ التوفيق والتوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة. وتتّخذ العملية اسلوبين:
الاسلوب الأوّل- هو تركيز التفسير الواقعي للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح كمقدّمة تمهيدية إلى حياة اخروية، يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه في سبيل تحصيل رضا اللَّه. فالمقياس الخُلُقي- أو رضا اللَّه تعالى- يضمن المصلحة الشخصية في نفس الوقت الذي يحقّق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى. فالدين يأخذ بيد الإنسان إلى المشاركة في إقامة المجتمع السعيد، والمحافظة على قضايا العدالة فيه التي تحقِّق رضا اللَّه‏

54

حياته، فجعله يؤمن بأنّ حياته منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال، وأ نّها إعداد للإنسان إلى عالم لا عناء فيه ولا شقاء، ونصب له مقياساً خُلُقياً جديداً في كلّ خطواته وأدواره، وهو: رضا اللَّه تعالى. فليس كلّ ما تفرضه المصلحة الشخصية فهو جائز، وكلّ ما يؤدّي إلى خسارة شخصية فهو محرّم وغير مستساغ، بل الهدف الذي رسمه الإسلام للإنسان في حياته هو: الرضا الإلهي. والمقياس الخُلُقي الذي توزن به جميع الأعمال إنّما هو: مقدار ما يحصل بها من هذا الهدف المقدّس.
والإنسان المستقيم هو: الإنسان الذي يحقّق هذا الهدف. والشخصية الإسلامية الكاملة هي: الشخصية التي سارت في شتّى أشواطها على هدي هذا الهدف، وضوء هذا المقياس، وضمن إطاره العامّ.
وليس هذا التحويل في مفاهيم الإنسان الخُلُقية وموازينه وأغراضه يعني تغيير الطبيعة الإنسانية وإنشاءها إنشاءً جديداً، كما كانت تعني الفكرة الشيوعية.
فحبّ الذات- أي: حبّ الإنسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصّة- طبيعي في الإنسان، ولا نعرف استقراء في ميدان تجريبي أوضح من استقراء الإنسانية في تأريخها الطويل الذي يبرهن على ذاتية حبّ الذات، بل لو لم يكن حبّ الذات طبيعياً وذاتياً للإنسان لما اندفع الإنسان الأوّل- قبل كلّ تكوينة اجتماعية- إلى تحقيق حاجاته، ودفع الأخطار عن ذاته، والسعي وراء مشتهياته بالأساليب البدائية التي حفظ بها حياته وأبقى وجوده، وبالتالي خوض الحياة الاجتماعية والاندماج في علاقات مع الآخرين؛ تحقيقاً لتلك الحاجات ودفعاً لتلك الأخطار. ولما كان حبّ الذات يحتلّ هذا الموضع من طبيعة الإنسان، فأيّ علاج حاسم للمشكلة الإنسانية الكبرى يجب أن يقوم على أساس الإيمان بهذه الحقيقة. وإذا قام على فكرة تطويرها أو التغلّب عليها، فهو علاج مثالي لا ميدان له في واقع الحياة العملية التي يعيشها الإنسان.

53

إنّ الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم عليه بالانهيار والفشل المحقّق في نظر الإسلام، ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته، وعوامل الفناء التي تحملها الملكية الخاصّة في ذاتها؛ لأنّ الإسلام يختلف في طريقته المنطقية واقتصاده السياسي وفلسفته الاجتماعية عن مفاهيم هذا الزعم وطريقته الجدلية- كما أوضحنا ذلك في كتاب (اقتصادنا)- ويضمن وضع الملكية الفردية في تصميم اجتماعي، خالٍ من تلك التناقضات المزعومة.
بل إنّ مردّ الفشل والوضع الفاجع الذي منيت به الديمقراطية الرأسمالية في عقيدة الإسلام إلى مفاهيمها المادّية الخالصة، التي لا يمكن أن يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها، ويستمدّ خطوطه العامّة من روحها وتوجيهها.
فلا بدّ إذن من معين آخر- غير المفاهيم المادّية عن الكون- يستقي منه النظام الاجتماعي، ولا بدّ من وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة، ويتبنّى القضية الإنسانية الكبرى، ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم، ويدرس مسائل العالم من هذه الزاوية. وعند اكتمال هذا الوعي السياسي في العالَم، واكتساحه لكلّ وعي سياسي آخر، وغزوه لكلّ مفهوم للحياة لا يندمج بقاعدته الرئيسية … يمكن أن يدخل العالَم في حياة جديدة مشرقة بالنور عامرة بالسعادة.
إنّ هذا الوعي السياسي العميق هو: رسالة السلام الحقيقي في العالم، وإنّ هذه الرسالة المنقذة لهي رسالة الإسلام الخالدة التي استمدّت نظامها الاجتماعي- المختلف عن كلّ ما عرضناه من أنظمة- من قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون.
وقد أوجد الإسلام بتلك القاعدة الفكرية النظرة الصحيحة للإنسان إلى‏

52

الاشتراكي وإن كان يلغي الملكية الخاصّة لوسائل الانتاج، غير أ نّه لا يلغي إدارتها الخاصّة من قِبل هيئات الجهاز الحاكم الذي يمارس دكتاتورية البروليتاريا، ويحتكر الإشراف على جميع وسائل الانتاج وإدارتها؛ إذ ليس من المعقول أن تدار وسائل الانتاج في لحظة تأميمها إدارة جماعية اشتراكية من قِبل أفراد المجتمع كافّة. فالنظام الاشتراكي يحتفظ- إذن- بظواهر فردية بارزة، ومن الطبيعي لهذه الظواهر الفرديّة أن تحافظ على الدافع الذاتي، وتعكسه في المحتوى الداخلي للإنسان باستمرار، كما كانت تصنع ظاهرة الملكية الخاصّة.
وهكذا نعرف قيمة السبيل الأوّل لحلّ المشكلة- السبيل الشيوعي- الذي يعتبر إلغاء تشريع الملكية الخاصّة ومحوها من سجلّ القانون كفيلًا وحده بحلّ المشكلة وتطوير الإنسان.
وأمّا السبيل الثاني- الذي مرّ بنا- فهو الذي سلكه الإسلام؛ إيماناً منه بأنّ الحلّ الوحيد للمشكلة تطوير المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة. فلم يبتدر إلى مبدأ الملكية الخاصّة ليبطله، وإنّما غزا المفهوم المادّي عن الحياة، ووضع للحياة مفهوماً جديداً، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد، بل وضع لكلّ منهما حقوقه، وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادّية معاً. فالإسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من أنظمة، فمحاها محواً ينسجم مع الطبيعة الإنسانية؛ فإنّ نقطة الارتكاز الأساسية لما ضجّت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي هي: النظرة المادّية إلى الحياة التي نختصرها بعبارة مقتضبة في افتراض حياة الإنسان في الدنيا هي كلّ ما في الحساب من شي‏ء، وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكلّ فعّالية ونشاط.

51

وفي المحتوى الداخلي للإنسان، فتنقلب مشاعره الفردية إلى مشاعر جماعية، ويتحوّل حبّه لمصالحه ومنافعه الخاصّة إلى حبّ لمنافع الجماعة ومصالحها، وفقاً لقانون التوافق بين حالة الملكية الأساسية، ومجموع الظواهر الفوقية التي تتكيّف بموجبها.
والواقع: أنّ هذا المفهوم الماركسي لحبّ الذات، يقدِّر العلاقة بين الواقع الذاتي (غريزة حبّ الذات)، وبين الأوضاع الاجتماعية بشكل مقلوب. وإلّا فكيف نستطيع أن نؤمن بأنّ الدافع الذاتي وليد الملكية الخاصّة والتناقضات الطبقية التي تنجم عنها؟! فإنّ الإنسان لو لم يكن يملك سلفاً الدافع الذاتي، لما أوجد هذه التناقضات، ولا فكّر في الملكية الخاصّة والاستئثار الفردي.
ولماذا يستأثر الإنسان بمكاسب النظام، ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين ما دام لا يحسّ بالدافع الذاتي في أعماق نفسه؟!
فالحقيقة: أنّ المظاهر الاجتماعية للأنانية في الحقل الاقتصادي والسياسي لم تكن إلّانتيجة للدافع الذاتي لغريزة حبّ الذات. فهذا الدافع أعمق منها في كيان الإنسان، فلا يمكن أن يزول وتقتلع جذوره بإزالة تلك الآثار؛ فإنّ عملية كهذه لا تعدو أن تكون استبدالًا لآثار باخرى قد تختلف في الشكل والصورة، لكنّها تتّفق معها في الجوهر والحقيقة.
أضف إلى ذلك: أ نّنا لو فسّرنا الدافع الذاتي (غريزة حبّ الذات) تفسيراً موضوعياً- بوصفه انعكاساً لظواهر الفردية في النظام الاجتماعي، كظاهرة الملكية الخاصّة- كما صنعت الماركسية، فلا يعني هذا أنّ الدافع الذاتي سوف يفقد رصيده الموضوعي وسببه من النظام الاجتماعي بإزالة الملكية الخاصّة؛ لأنّها وإن كانت ظاهرة ذات طابع فردي، ولكنّها ليست هي الوحيدة من نوعها، فهناك- مثلًا- ظاهرة الإدارة الخاصّة التي يحتفظ بها حتّى النظام الاشتراكي؛ فإنّ النظام‏

50

العامّة ومصلحة المجموع؛ فإنّ غريزة حبّ الجماعة تكون ضامنة- حينئذٍ- للسعي وراء مصالحها وتحقيق متطلّباتها بطريقة ميكانيكية واسلوب آلي.
والسبيل الآخر الذي يمكن للعالَم سلوكه لدرء الخطر عن حاضر الإنسانية ومستقبلها هو: ان يطوّر المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة، وبتطويره تتطوّر طبيعياً أهدافها ومقاييسها، وتتحقّق المعجزة- حينئذٍ- من أيسر طريق.
والسبيل الأوّل هو الذي يحلم أقطاب الشيوعيين بتحقيقه للإنسانية في مستقبلها، ويَعِدون العالم بأ نّهم سوف ينشؤونها إنشاءً جديداً، يجعلها تتحرّك ميكانيكياً إلى خدمة الجماعة ومصالحها. ولأجل أن يتمّ هذا العمل الجبّار يجب أن نوكل قيادة العالم إليهم، كما يُوكل أمر المريض إلى الجرّاح، ويُفوَّض إليه تطبيبه وقطع الأجزاء الفاسدة منه، وتعديل المعوّج منها. ولا يعلم أحدٌ كم تطول هذه العملية الجراحية التي تجعل الإنسانية تحت مبضع جرّاح. وإنّ استسلام الإنسانية لذلك لهو أكبر دليل على مدى الظلم الذي قاسته في النظام الديمقراطي الرأسمالي، الذي خدعها بالحرّيات المزعومة، وسلب منها أخيراً كرامتها، وامتصّ دماءها؛ ليقدّمها شراباً سائغاً للفئة المدلّلة التي يمثّلها الحاكمون.
والفكرة في هذا الرأي القائل بمعالجة المشكلة عن طريق تطوير الإنسانية وإنشائها من جديد ترتكز على مفهوم الماركسية عن حبّ الذات؛ فإنّ الماركسية تعتقد أنّ حبّ الذات ليس ميلًا طبيعياً وظاهرة غريزية في كيان الإنسان، وإنّما هو نتيجة للوضع الاجتماعي القائم على أساس الملكية الفردية؛ فإنّ الحالة الاجتماعية للملكية الخاصّة هي التي تكوّن المحتوى الروحي والداخلي للإنسان، وتخلق في الفرد حبّه لمصالحه الخاصّة ومنافعه الفردية. فإذا حدثت ثورة في الاسس التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي، وحلّت الملكية الجماعية والاشتراكية محلّ الملكية الخاصّة، فسوف تنعكس الثورة في كلّ أرجاء المجتمع‏

49

بلا عوض. وما دامت المصلحة المادّية هي القوّة المسيطرة بحكم مفاهيم الحياة المادّية، فسوف تستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس، وسوف يُعرَّض المجتمع لأشكال من الخطر والاستغلال.
فالخطر على الإنسانية يكمن كلّه في تلك المفاهيم المادّية، وما ينبثق عنها من مقاييس للأهداف والأعمال. وتوحيد الثروات الرأسمالية- الصغيرة أو الكبيرة- في ثروة كبرى يُسلَّم أمرها للدولة من دون تطوير جديد للذهنية الإنسانية، لا يدفع ذلك الخطر، بل يجعل من الامّة جميعاً عمّال شركة واحدة، ويربط حياتهم وكرامتهم بأقطاب تلك الشركة وأصحابها.
نعم، إنّ هذه الشركة تختلف عن الشركة الرأسمالية في أنّ أصحاب تلك الشركة الرأسمالية هم الذين يملكون أرباحها، ويصرفونها في أهوائهم الخاصّة.
وأمّا أصحاب هذه الشركة فهم لا يملكون شيئاً من ذلك في مفروض النظام، غير أنّ ميادين المصلحة الشخصية لا تزال مفتوحة، والفهم المادّي للحياة- الذي يجعل من تلك المصلحة هدفاً ومبرِّراً- لا يزال قائماً.

كيف تعالج المشكلة؟

والعالم أمامه سبيلان إلى دفع الخطر وإقامة دعائم المجتمع المستقرّ:
أحدهما- أن يبدّل الإنسان غير الإنسان، أو تخلق فيه طبيعة جديدة تجعله يضحّي بمصالحه الخاصّة، ومكاسب حياته المادّية المحدودة في سبيل المجتمع ومصالحه، مع إيمانه بأ نّه لا قيم إلّاقيم تلك المصالح المادّية، ولا مكاسب إلّا مكاسب هذه الحياة المحدودة. وهذا إنّما يتمّ إذا انتزع من صميم طبيعته حبّ الذات، وابدل بحبّ الجماعة، فيولد الإنسان وهو لا يحبّ ذاته إلّاباعتبار كونه جزءاً من المجتمع، ولا يلتذّ لسعادته ومصالحه إلّابما أ نّها تمثّل جانباً من السعادة

48

رأسمالية كاملة.
أفَتَرى أنّ المشكلة تُحلّ حلًاّ حاسماً إذا رفضنا مبدأ الملكيّة الخاصّة، وأبقينا تلك المفاهيم المادّية عن الحياة، كما حاول اولئك المفكّرون؟!
وهل يمكن أن ينجو المجتمع من مأساة تلك المفاهيم بالقضاء على الملكية الخاصّة فقط، ويحصل على ضمان لسعادته واستقراره؟! مع أنّ ضمان سعادته واستقراره يتوقّف إلى حدٍّ بعيد على ضمان عدم انحراف المسؤولين عن مناهجهم وأهدافهم الإصلاحية في ميدان العمل والتنفيذ، والمفروض في هؤلاء المسؤولين أ نّهم يعتنقون نفس المفاهيم المادّية الخالصة عن الحياة التي قامت عليها الرأسمالية، وإنّما الفرق: أنّ هذه المفاهيم أفرغوها في قوالب فلسفية جديدة، ومن الفرض المعقول الذى يتّفق في كثير من الأحايين، أن تقف المصلحة الخاصّة في وجه مصلحة المجموع، وأن يكون الفرد بين خسارة وألم يتحمّلهما لحساب الآخرين، وبين ربح ولذّة يتمتّع بهما على حسابهم، فماذا تقدّر للُامّة وحقوقها وللمذهب وأهدافه من ضمان في مثل هذه اللحظات الخطيرة التي تمرّ على الحاكمين؟! والمصلحة الذاتية لا تتمثّل فقط في الملكية الفردية، ليقضى على هذا الفرض الذي افترضناه بإلغاء مبدأ الملكية الخاصّة، بل هي تتمثّل في أساليب، وتتلوّن بألوان شتّى. ودليل ذلك ما أخذ يكشف عنه زعماء الشيوعية اليوم من خيانات الحاكمين السابقين، والتوائهم على ما يتبنّون من أهداف.
إنّ الثروة تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظلّ الاقتصاد المطلق والحرّيات الفردية، وتتصرّف فيها بعقليّتها المادّية تُسلَّم- عند تأميم الدولة لجميع الثروات، وإلغاء الملكية الخاصّة- إلى نفس جهاز الدولة المكوّن من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادّية عن الحياة، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصية بحكم غريزة حبّ الذات، وهي تأبى أن يتنازل الإنسان عن لذّة ومصلحة

47

جزءٌ من كيانه الخاصّ.
وهذه الاستعدادات التي تهيّئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوّعة، تختلف في درجاتها عند الأشخاص، وتتفاوت في مدى فعليّتها باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثّر فيه. فبينما نجد أنّ بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعية، كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلًا، نجد أنّ ألواناً اخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان، وتظلّ تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتّحها. وغريزة حبّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً، تحدّد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات.
فهي تدفع إنساناً إلى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع إنساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه؛ لأنّ استعداد الإنسان الأوّل للالتذاذ بالقيم الخُلُقية والعاطفية الذي يدفعه إلى الإيثار كان كامناً، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته. بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية، فأصبح يلتذّ بالقيم الخُلُقية والعاطفية، ويضحّي بسائر لذّاته في سبيلها.
فمتى أردنا أن نغيّر من سلوك الإنسان شيئاً، يجب أن نغيّر من مفهوم اللذّة والمنفعة عنده، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العامّ لغريزة حبّ الذات.
فإذا كانت غريزة حبّ الذات بهذه المكانة من دنيا الإنسان، وكانت الذات في نظر الإنسان عبارة عن طاقة مادّية محدودة، وكانت اللذّة عبارة عمّا تهيّئه المادّة من متع ومسرّات، فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بأنّ مجال كسبه محدود، وأنّ شوطه قصير، وأنّ غايته في هذا الشوط أن يحصل على مقدار من اللذّة المادّية. وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصب الحياة المادّية وهو: المال الذي يفتح أمام الإنسان السبيل إلى تحقيق كلّ أغراضه وشهواته.
هذا هو التسلسل الطبيعي في المفاهيم المادّية الذي يؤدّي إلى عقلية