کتابخانه
239

أحدهما أنّ المادّية بحاجة إلى دليل على الجانب السلبي الذي يميّزها عن الإلهية، كحاجة الميتافيزيقا إلى برهان على الإيجاب والإثبات.
والآخر أنّ المادّية اتّجاهٌ فلسفي كالإلهية، ولا توجد لدينا مادّية علمية، أي: تجريبية؛ لأنّ العلم- كما عرفنا- لا يُثبت المفهوم المادّي للعالم لتكون المادّية علمية، بل كلّ ما يكشف عنه العلم من حقائق وأسرار في عالم الطبيعة، يترك مجالًا لافتراض سبب أعلى فوق المادّة. فالتجربة العلمية- مثلًا- لا يمكن أن تدلّ على أنّ المادّة ليست مخلوقة لسبب مجرّد، أو على أنّ أشكال الحركة وألوان التطوّر التي استكشفها العلم في شتّى جوانب الطبيعة، هي حركات وتطوّرات مكتفية ذاتياً، وليست منبثقة عن سبب فوق حدود التجربة ومجالاتها.
وهكذا كلّ حقيقة علمية. فالدليل على المادّية- إذن- لا يمكن أن يرتكز على الحقائق العلمية، أو التجارب بصورة مباشرة، وإنّما يصاغ في تفسير فلسفي لتلك الحقائق والتجارب، كالدليل على الإلهية تماماً.
ولنأخذ التطوّر لذلك مثلًا، فالعلم يُثبت وجود التطوّر الطبيعي في عدّة من المجالات، ويمكن أن يوضَع لهذا التطوّر تفسيران فلسفيان:
أحدهما أ نّه منبثق عن صميم الشي‏ء، وناتج عن صراع يفترض فيه بين المتناقضات، وهذا هو تفسير المادّية الديالكتيكية.
والآخر أ نّه ناتج عن سبب أعلى مجرّد، فالطبيعة المتطوّرة لا تحوي في ذاتها المتناقضات، وإنّما تنطوي على إمكان التطوّر، وذلك السبب هو الذي يحقّق للإمكان الوجود الفعلي، وهذا هو تفسير الفلسفة الإلهية. فنحن نلاحظ بوضوح:
أنّ المفهوم العلمي إنّما هو وجود التطوّر الطبيعي، وأمّا هذان المفهومان عن الحركة فهما مفهومان فلسفيان، ولا يمكن أن يتأكّد من صحّة أحدهما، وخطأ الآخر بالتجربة المباشرة.

238

مسؤول- أيضاً- عن الدليل على النفي؛ لأنّه لم يجعل القضية الميتافيزيقية موضع شكّ، وإنّما نفاها نفياً قاطعاً، والنفي القاطع كالإثبات القاطع يفتقر إلى الدليل.
فالمادّي حين زعم أنّ السبب المجرّد لا وجود له، ادّعى في هذا الزعم ضمناً أ نّه أحاط بالوجود كلّه، ولم يجد فيه موضعاً للسبب المجرّد، فلا بدّ أن يقدّم دليلًا على هذه الإحاطة العامّة، وتبريراً للنفي المطلق.
ونتساءل هنا من جديد: ما هي طبيعة الدليل الذي يمكن للإلهي أو للمادّي أن يقدّمه في هذا المجال؟
ونجيب أنّ دليل الإثبات أو النفي يجب أن يكون هو العقل، لا التجربة المباشرة، خلافاً للمادّية التي درجت على اعتبار التجربة دليلًا على مفهومها الخاصّ، زاعمة أنّ المفهوم الإلهي أو القضايا الميتافيزيقية بصورة عامّة لا يمكن إثباتها بالتجربة، وأنّ التجربة هي التي تردّ على تلك المزاعم؛ لأنّها تحلّل الإنسان والطبيعة، وتدلّل على عدم وجود أشياء مجرّدة فيهما؛ ذلك أنّ التجارب والحقائق العلمية إذا صحّ للمادّية ما تزعمه: من أ نّها لا تقوم دليلًا على الاتّجاه الإلهي، فهي- أيضاً- لا تصلح دليلًا للنفي المطلق الذي يحدّد الاتّجاه المادّي، فقد عرفنا أنّ الحقائق العلمية على اختلاف ألوانها ليست موضعاً للنقاش بين الإلهية والمادّية، وإنّما النقاش في التفسير الفلسفي لتلك الحقائق، أي: في وجود سبب أعلى وراء حدود التجربة.
ومن الواضح: أنّ التجربة لا يمكن أن تعتبر برهاناً على نفي حقيقة خارج حدودها. فالعالِم الطبيعي إذا لم يجد السبب المجرّد في مختبره، لم يكن هذا دليلًا إلّا على عدم وجوده في ميدان التجربة، وأمّا نفي وجوده في مجال فوق مجالات التجربة، فلا يمكن أن يستنتج من التجربة ذاتها.
ونؤكّد بهذا البيان على أمرين:

237

الميكانيكية والحركة الطبيعية لا تتّصلان بسبب مجرّد، وأنّ الحركة الطبيعية ديناميكية، فهي تكتفي بنفسها؛ لأنّ الحقل التجريبي لم يبدُ فيه ما اعتقده الإلهيون من سبب مجرّد.
وهكذا يتّضح بكلّ جلاء أنّ التعارض بين الإلهية والمادّية ليس في الحقائق العلمية؛ فإنّ الإلهي كالمادّي يعترف بجميع الحقائق العلمية التي توضّحها التجارب الصحيحة عن جسم الإنسان وفزلجة أعضائه، وعن التطوّر والحركة في الطبيعة، وإنّما يزيد بوضع حقائق اخرى والاعتراف بها. فهو يبرهن على وجود جانب روحي مجرّد للإنسان غير ما ظهر منه في الميدان التجريبي، وعلى سبب مجرّد أعلى للحركات الطبيعية والميكانيكية فوق المجال المحسوس.
وما دمنا قد عرفنا أنّ الميدان العلمي ليس فيه إلهي ومادّي، نعرف أنّ الكيان الفلسفي للمادّية- باعتبارها مدرسة مقابلة للإلهية- إنّما يرتكز على نفي الحقائق المجرّدة، وإنكار الوجود خارج حدود الطبيعة والمادّة، لا على حقائق علمية إيجابية.
السؤال الثاني- إذا كان التعارض بين الإلهية والمادّية هو تعارض الإثبات والنفي، فأيّ المدرستين يقع على مسؤوليتها الاستدلال والبرهنة على اتّجاهها الخاصّ الإيجابي أو السلبي؟
وقد يحلو لبعض المادّيين في هذا المجال أن يتخلّص من مسؤولية الاستدلال، ويعتبر الإلهي هو المسؤول عن التدليل على مدّعاه؛ لأنّ الإلهي هو صاحب الموقف الإيجابي، أي: مدّعي الثبوت، فيجب عليه أن يبرّر موقفه ويبرهن على وجود ما يدّعيه.
ولكنّ الواقع: أنّ كلًا منهما مكلّف بتقديم الأدلّة والمدارك لاتّجاهه الخاصّ، فكما أنّ الإلهي يجب عليه أن يبرهن على الإثبات، كذلك المادّي هو

236

السؤال، وهو: أنّ المائز الأساسي للمدرسة المادّية في الفلسفة هو: النفي أو الناحية السلبية، لما يتراءى أ نّه فوق طاقة العلوم التجريبية. فلا يوجد في الحقل العلمي إذن- أي: في النواحي الإيجابية للعلم التي تبرهن عليها التجربة- إلهي ومادّي. فالفيلسوف سواءٌ أكان إلهياً أم مادّياً، يؤمن بالجانب الإيجابي من العلم، فهما من الناحيه العلمية يسلّمان- مثلًا- بأنّ (الراديوم) يولِّد طاقة من الإشعاع نتيجة لانقسام داخلي، وبأنّ الماء يأتلف من اوكسجين وهيدروجين، وبأنّ عنصر الهيدروجين هو أخفّ العناصر في وزنه الذرّي. ويؤمنان معاً بسائر الحقائق الإيجابية التي تظهر على الصعيد العلمي.
فليس في المسألة العلمية فيلسوف إلهي وآخر مادّي، وإنّما توجد هاتان الفلسفتان وتتعارض المادّية مع الإلهية، حينما تعرض مسألة الوجود فيما وراء الطبيعة. فالإلهي يعتقد بلون من الوجود مجرّد عن المادّة، أي: موجود خارج الحقل التجريبي، وظواهره وقواه. والمادّي ينكر ذلك ويقصر الوجود على ذلك الحقل الخاصّ، ويعتبر الأسباب الطبيعية التي كشفت عنها التجربة وامتدّت إليها يد العلم، هي الأسباب الأوّلية للوجود، وأنّ الطبيعة هي المظهر الوحيد له.
فبينما يقرّر الاتّجاه الإلهي: أنّ الروح الإنسانية أو ال (أنا)، ذات مجرّدة عن المادّة، وأنّ الإدراك والفكر ظواهر مستقلّة عن الطبيعة والمادّة، ينكر المادّي ذلك زاعماً أ نّه حلّل جسم الإنسان، وراقب عمليات الجهاز العصبي، فلم يجد شيئاً خارج الحدود الطبيعية والمادّية، كما يدّعي الإلهيون.
وكذلك يؤمن الاتّجاه الإلهي بأنّ التطوّرات والحركات التي يكشف عنها العلم- سواءٌ كانت حركات ميكانيكية تخضع لسبب مادّي خارجي، أم حركات طبيعية غير ناشئة من مؤثّرات مادّية معيّنة بالتجربة- ترجع في النهاية إلى سبب خارجي وراء سياج الطبيعة والمادّة. ويعارض في ذلك المادّي زاعماً أنّ الحركة

235

المادّي مردّه في الزعم المثالي إلى مجال روحي.
وأمّا الروحية في المفهوم الإلهي أو العقيدة الإلهية، فهي طريقة للنظر إلى الواقع بصورة عامّة، لا مجالًا خاصّاً مقابلًا للمجال المادّي. فالإلهية التي تؤمن بالسبب المجرّد الأعمق، تعتقد بصلة كلّ ما هو موجود في المجال العامّ- سواءٌ أكان روحياً أم مادّياً- بذلك السبب الأعمق، وترى أنّ هذه الصلة هي التي يجب أن يحدّد على ضوئها الموقف العملي والاجتماعي للإنسان تجاه الأشياء جميعاً.
فالروحية في العرف الإلهي اسلوب في فهم الواقع، ينطبق على المجال المادّي والمجال الروحي- بمعناه المثالي- على السواء.
ويتلخّص من العرض السابق: أنّ المفاهيم الفلسفية عن العالم ثلاثة.
وقد درسنا في نظرية المعرفة المفهوم المثالي باعتباره مرتبطاً بها كلّ الارتباط، واستعرضنا أخطاءه، فلنتناول في هذه المسألة دراسة المفهومين الآخرين: المادّي والإلهي.
وفي المفهوم المادّي اتّجاهان: الاتّجاه الآلي أو الميكانيكي، والاتّجاه الديالكتيكي والتناقض، أو المادّية الديناميكية.

إيضاح عدّة نقاط عن المفهومين:

وقبل أن نعرض للمفهوم المادّي بكلا اتّجاهيه يجب أن نستوضح عدّة نقاط حول المفهوم الإلهي والمادّي، وذلك في الأسئلة الآتية:
السؤال الأوّل- ما هي الميزة الأساسية لكلّ من الاتّجاه المادّي (المدرسة المادّية للفلسفة)، والاتّجاه الإلهي (المدرسة الإلهية) على الآخر وما هو الفارق الرئيسي الذي جعل منهما اتّجاهين متعارضين، ومدرستين متقابلتين؟
ونظرة واحدة نلقيها على المدرستين تحدّد لنا جواباً واضحاً على هذا

234

يطلق للعلم أوسع مجال لاستكشاف أسرار الطبيعة ونظامها، ويحتفظ لنفسه بالتفسير الإلهي في نهاية المطاف، وهو وضع السبب الأعمق في مبدأ أعلى من الطبيعة والمادّة.
فليست المسألة الإلهية- كما يشاء أن يصوّرها خصومها- مسألة أصابع تمتدّ من وراء الغيب، فتقطر الماء في الفضاء تقطيراً، أو تحجب الشمس عنّا، أو تحول بيننا وبين القمر، فيوجد بذلك المطر والكسوف والخسوف، فإذا كشف العلم عن أسباب المطر وعوامل التبخير فيه، وإذا كشف عن سبب الكسوف، وعرفنا أنّ الأجرام السماوية ليست متساوية الأبعاد عن الأرض، وأنّ القمر أقرب إليها من الشمس، فيتّفق أن يمرّ القمر بين الأرض والشمس فيحجب نورها عنّا، وإذا كشف العلم عن سبب الخسوف وهو: وقوع القمر في ظلّ الأرض، الذي يمتدّ وراءها إلى مسافة (900) ألف ميل تقريباً، أقول: إذا كملت هذه المعلومات لدى الإنسان، يخيّل لُاولئك المادّيين أنّ المسألة الإلهية لم يبقَ لها موضوع، وأنّ الأصابع الغيبية التي تحجب الشمس أو القمر عنّا، عوَّض عنها العلم بالتعليلات الطبيعية، وليس هذا إلّالسوء فهم للمسألة الإلهية، وعدم تمييز لموضع السبب الإلهي من سلسلة الأسباب.
الثالث- أنّ الطابع الروحي غلب على المثالية والإلهية معاً، حتّى أخذ يبدو أنّ الروحية في المفهوم الإلهي هي بمعناها في المفهوم المثالي، ونشأت عن ذلك عدّة اشتباهات؛ ذلك أنّ الروحية قد تعتبر وصفاً لكلّ من المفهومين. ولكنّنا لا نجيز مطلقاً أن يهمل التمييز بين الروحيتين، بل يجب أن نعرف أنّ الروحية في العرف المثالي يقصد بها: المجال المقابل للمجال المادّي المحسوس، أي: مجال الشعور والإدراك والأنا. فالمفهوم المثالي روحي على أساس أ نّه يفسّر كلّ كائن وكلّ موجود في نطاق هذا المجال، ويرجع كلّ حقيقة وكلّ واقع إليه. فالمجال‏

233

مثالي، وإذا أردت أن ترفض المثالية والذاتية، وتؤمن بواقع موضوعي مستقلّ عن ال (أنا)، فليس عليك إلّاأن تأخذ بالمفهوم المادّي للعالم، وتعتقد أنّ المادّة هي المبدأ الأوّل، وأنّ الفكر والشعور ليس إلّاانعكاساً لها ودرجة خاصّة من تطوّرها.
وهذا لا يتّفق مع الواقع مطلقاً كما عرفنا؛ فإنّ الواقعية ليست وقفاً على المفهوم المادّي، كما أنّ المثالية أو الذاتية ليست هي الشي‏ء الوحيد الذي يعارض المفهوم المادّي، ويقف أمامه على الصعيد الفلسفي، بل يوجد مفهوم آخر للواقعية، هو: المفهوم الواقعي الإلهي الذي يعتقد بواقع خارجي للعالم والطبيعة، ويرجع الروح والمادّة معاً إلى سبب أعمق فوقهما جميعاً.
الثاني- ما اتّهم به بعض الكتّاب المفهوم الإلهي: من أ نّه يجمّد مبدأ العلّية في دنيا الطبيعة، ويلغي قوانينها ونواميسها التي يكتشفها العلم وتزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، فهو في زعمهم يربط كلّ ظاهرة وكلّ وجود بالمبدأ الإلهي.
وقد لعب هذا الاتّهام دوراً فعّالًا في الفلسفة المادّية، حيث اعتبرت فكرة اللَّه هي فكرة وضع السبب المعقول لما يشاهده الإنسان من ظواهر الطبيعة وحوادثها، ومحاولة لتبرير وجودها، فتزول الحاجة إليها تماماً حين نستطيع أن نستكشف بالعلم والتجارب العلمية حقيقة الأسباب والقوانين الكونية التي تتحكّم في العالم، وتتولّد باعتبارها الظواهر والحوادث. وساعد على تركيز هذا الاتّهام ما كانت تلعبه الكنيسة في بداية النهضة العلمية في أوروبا، من أدوار خبيثة في محاربة التطوّر العلمي، ومعارضة ما يكشفه العلم من أسرار الطبيعة ونواميسها.
والحقيقة: أنّ المفهوم الإلهي للعالم لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية، أو التمرّد على شي‏ء من حقائق العلم الصحيح، وإنّما هو المفهوم الذي يعتبر اللَّه سبباً أعمق، ويحتّم على تسلسل العلل والأسباب أن يتصاعد إلى قوّة فوق الطبيعة والمادّة. وبهذا يزول التعارض بينه وبين كلّ حقيقة علمية تماماً؛ لأنّه‏

232

والإجابة بالتقدير الأوّل تلخّص الفلسفة الواقعية أو المفهوم الواقعي للعالم، والإجابة بالتقدير الثاني هي التي تقدّم المفهوم المثالي للعالم.
وفي المسألة الثانية يوضع السؤال على ضوء الفلسفة الواقعية هكذا: إذا كنّا نؤمن بواقع موضوعي للعالم، فهل نقف في الواقعية على حدود المادّة المحسوسة، فتكون هي السبب العامّ لجميع ظواهر الوجود والكون بما فيها من ظواهر الشعور والإدراك؟ أو نتخطّاها إلى سبب أعمق، إلى سبب أبدي ولانهائي بصفته المبدأ الأساسي لما ندركه من العالم بكلا مجاليه: الروحي والمادّي معاً؟
وبذلك يوجد في الحقل الفلسفي للواقعية مفهومان: يعتبر أحدهما، أنّ المادّة هي القاعدة الأساسية للوجود، وهو: المفهوم الواقعي المادّي. ويتخطّى الآخر المادّة إلى سبب فوق الروح والطبيعة معاً، وهو: المفهوم الواقعي الإلهي.
فبين يدينا- إذن- مفاهيم ثلاثة للعالم: المفهوم المثالي، والمفهوم الواقعي المادّي، والمفهوم الواقعي الإلهي. وقد يعبّر عن المثالية بالروحية نظراً إلى اعتبار الروح، أو الأنا، أو الشعور، الأساس الأوّل للوجود.

تصحيح أخطاء:

وعلى هذا الضوء يجب أن نصحّح عدّة أخطاء وقع فيها بعض الكتّاب المحدَثين:
الأوّل- محاولة اعتبار الصراع بين الإلهية والمادّية مظهراً من مظاهر التعارض بين المثالية والواقعية، فلم يفصلوا بين المسألتين اللتين قدّمناهما، وزعموا أنّ المفهوم الفلسفي للعالم أحد أمرين: إمّا المفهوم المثالي، وإمّا المفهوم المادّي. فتفسير العالم لا يمكن أن يقبل سوى وجهين اثنين، فإذا فسّرت العالم تفسيراً تصوّرياً خالصاً، وآمنت بأنّ التصوّر أو الأنا هو الينبوع الأساسي، فأنت‏

231

[مفاهيم ثلاثة للعالم:]

إنّ لمسألة تكوين مفهوم فلسفي عام عن العالم، مركزاً رئيسياً في العقل البشري، منذ حاولت الإنسانية تحديد علاقاتها بالعالم الموضوعي وارتباطها به.
ولسنا نحاول في دراستنا هذه أن نؤرّخ للمسألة في سيرها الفلسفي والديني والعلمي، وتطوّرها على مرّ الزمن منذ آمادها البعيدة، وإنّما نستهدف أن نعرض المفاهيم الأساسية في الحقل الفلسفي الحديث؛ لنحدّد موقفنا منها، وما هو المفهوم الذي يجب أن تتبلور نظرتنا العامّة على ضوئه ويرتكز مبدأنا في الحياة على أساسه.
ومردّ مسألتنا هذه إلى مسألتين: إحداهما، مسألة المثالية والواقعية.
والاخرى، مسألة المادّية والإلهية.
ففي المسألة الاولى يُعرَض السؤال على الوجه التالي: أنّ هذه الكائنات التي يتشكّل منها العالم، هل هي حقائق موجودة بصورة مستقلّة عن الشعور والإدراك؟ أو أ نّها ليست إلّاألواناً من تفكيرنا وتصوّرنا؟ بمعنى: أنّ الفكر أو الإدراك هو الحقيقة، وكلّ شي‏ء يرجع في نهاية المطاف إلى التصوّرات الذهنية، فإذا أسقطنا الشعور أو ال (أنا) فإنّ الواقع كلّه يزول. فهذان تقديران للمسألة.