کتابخانه
221
التعديلات العلمية والحقائق المطلقة:

وقد كتب (أنجلز) ينقد مبدأ الحقيقة المطلقة القائل بسلبية إمكان اجتماعها مع الخطأ، عن طريق التعديل الذي يطرأ على النظريات والقوانين العلمية، فقال:
«ولنستشهد على ذلك بقانون (بويل) الشهير، الذي ينصّ على أنّ حجوم الغازات تتناسب عكسياً مع الضغط الواقع عليها إذا بقيت درجة حرارتها ثابتة.
وجد (رنيو) بأنّ هذا القانون لا يصحّ في حالات معيّنة، ولو كان (رنيو) أحد فلاسفة الواقعية لانتهى من ذلك إلى الاستخلاص التالي:
بما أنّ قانون (بويل) قابل للتغيّر فهو ليس بحقيقة محضة، أي: أ نّه ليس بحقيقة البتة، فهو- إذن- قانون باطل.

 

__________________________________________________
– (ج) أنّ جمع غازين درجة حرارة كلّ منهما درجتان مئويتان، ينتج حرارة الخليط بنفس تلك الدرجة أيضاً من دون مضاعفة.
وهذا لون آخر من التمويه؛ لأنّ العمليّة إنّما جمعت بين غازين وخلطت بينهما، لا أ نّها جمعت بين درجتي الحرارة. وإنّما يجمع بين الدرجتين لو ضوعفت الدرجة في موضوعها، فنحن لم نضف حرارة على حرارة لنترقّب حدوث درجة أضخم للحرارة، وإنّما أضفنا حارّاً إلى حارّ وخلطنا بينهما.
وهكذا يتّضح: أنّ كلّ تشكيك أو نقض يدور حول البدهيات العقلية الضرورية، مردّه في الحقيقة إلى لون من المغالطة أو عدم إجادة فهم تلك البدهيات. وسوف يبدو هذا بكلّ وضوح عند عرضنا لنقوض الماركسية التي حاولت أن تردّ على مبدأ عدم التناقض. (المؤلّف قدس سره)

220

__________________________________________________
– يكن متقوّماً بالجزئيات فحسب، وإنّما يتقوّم بالجزئيات والفراغ النسبي القائم بينها، فإذا أحضرنا حجمين من الكحول كان هذان الحجمان يعبّران عن جزئيّات وفراغ بينها لا عن الجزئيات فحسب، وحين نلقي على الكحول حجمين من الماء وتتسلّل جزئيّات الماء إلى الفراغ النسبي القائم بين جزئيات الكحول فتشغله، نكون قد فقدنا هذا الفراغ النسبي الذي كان له نصيب من حجم الكحول. فلم نجمع- إذن- بين حجمين من الكحول وحجمين من الماء، وإنّما جمعنا بين حجمين من الماء وجزئيات حجمين من الكحول، وأمّا الفراغ النسبي فيها فقد سقط من الحساب. وهكذا يتّضح أ نّا إذا أردنا أن ندقّق في صوغ العملية الرياضية نقول: إنّ جمع حجمين كاملين من الماء مع حجمين من الكحول باستثناء الفراغ المتخلّل بين جزئياته، يساوي أربعة حجوم باستثناء ذلك الفراغ نفسه. وليست قصّة هذه الحجوم إلّاكآلاف النظائر والأمثلة الطبيعية التي يشاهدها كلّ الناس في حياتهم الاعتيادية.
فماذا نقول في جسم قطني ارتفاعه متر، وقطعة من حديد ارتفاعها متر أيضاً لو وضعنا أحد الجسمين على الآخر، فهل ينتج عن ذلك ارتفاع مترين؟! وفي تراب ارتفاعه متر، وماء ارتفاعه متر، ثمّ ألقينا الماء على التراب، فهل نجني من ذلك ارتفاعاً مضاعفاً؟! طبعاً لا، فهل من الجائز أن نعتبر ذلك دليلًا على تفنيد البدهيات الرياضية؟!
(ب) أنّ جمع كالون من الماء مع كالون من حامض الكبريتيك لا ينتج كالونين، وإنّما يحصل من ذلك انفجار مرعب.
وهذا- أيضاً- لا يتعارض مع البدهية الرياضية في جمع الأعداد؛ ذلك أنّ (1+ 1) إنّما يساوي اثنين إذا لم يعدم أحدهما أو كلاهما حال الجمع والمزج، وإلّا لم يحصل جمع بين واحد وواحد بمعناه الحقيقي. ففي هذا المثال لم تكن الوحدتان- الكالونان- موجودتين حين إتمام عملية الجمع لينتج اثنين.-

219

بحكم التناقضات الديالكتيكية، فندركه على شكل آخر[1].

 

[1] ومن الطريف حقّاً تلك المحاولات التي تتّخذ باسم العلم لتفنيد البدهيات العقلية، من رياضية ومنطقية، مع أنّ العلم لا يمكن أن يقوم إلّاعلى أساسها. وفيما يلي أمثلة من تلك المحاولات للدكتور نوري جعفر، ذكرها في كتابه فلسفة التربية، الصفحة 66:

« وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول: إنّ جميع القوانين العلمية قوانين نسبية، تعمل في مجالات معيّنة لا تتعدّاها، ويصدق ما ذكرناه على قوانين الرياضيات وبعض مظاهرها التي تبدو لأوّل وهلة كأ نّها من الامور البديهية التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، فحاصل جمع 2 زائد 2- مثلًا- لا يساوي 4 دائماً. من ذلك- مثلًا- أ نّنا إذا جمعنا حجمين من الكحول مع حجمين من الماء، فالنتيجة تكون أقلّ من 4 حجوم ممزوجة، وسبب ذلك راجع إلى أنّ السائلين تختلف جزئيات أحدهما في شدّة تماسكها عن الآخر، فتنفذ عند المزج جزئيات السائل الأكثر تماسكاً( الماء) من بين الفراغات النسبية الموجودة بين جزئيات الكحول، وتكون النتيجة مشابهة لخلط مقدار من البرتقال مع مقدار من الرقّي حيث ينفذ قسم من البرتقال من بين الفراغات الموجودة في الرقّي. وحاصل جمع كالون من الماء مع كالون من حامض الكبريتيك انفجار مرعب، على أنّ ذلك الجمع إذا تمّ بدقّة علمية وبشكل يتفادى حدوث الانفجار، فإنّ النتيجة مع هذا تكون أقلّ من كالونين من المزيج. ويكون حاصل جمع 2+ 2/ 2 أحياناً اخرى، فإذا خلطنا غازين درجة حرارة كلّ منهما درجتان مئويتان، فإنّ درجة حرارة الخليط تبقى درجتين».

وهذا النصّ يعرض لنا ثلاث عمليات رياضية:

( أ) أنّ حجمين من الكحول إذا جمعناهما مع حجمين من الماء فالنتيجة تكون أقلّ من( 4) حجوم.

وهذه العملية تنطوي على مغالطة، وهي: أ نّنا في الحقيقة لم نجمع بين حجمين وحجمين، وإنّما خسرنا شيئاً في الجمع فظهرت الخسارة في النتيجة؛ ذلك أنّ حجم الغاز لم-

 

218

يجتمعان ما دام الخطأ والحقيقة أمرين نسبيين، وما دمنا لا نملك حقيقة مطلقة.
والفكرة الماركسية القائلة باجتماع الحقيقة والخطأ ترتكز على فكرتين:
إحداهما، الفكرة الماركسية عن تطوّر الحقيقة وحركتها، القائلة: إنّ كلّ حقيقة تتحرّك وتتغيّر بصورة مستمرّة.
والاخرى، الفكرة الماركسية على تناقضات الحركة، القائلة: إنّ الحركة عبارة عن سلسلة من التناقضات، فالشي‏ء المتحرّك في كلّ لحظة هو في نقطة معيّنة وليس هو في تلك النقطة، ولذلك تعتبر الماركسية الحركة نقضاً لمبدأ الهويّة.
فكان من نتيجة هاتين الفكرتين: أنّ الحقيقة والخطأ يجتمعان وليس بينهما تعارض مطلق؛ ذلك أنّ الحقيقة لمّا كانت في حركة، وكانت الحركة تعني التناقض المستمرّ، فالحقيقة- إذن- حقيقة، وليست بحقيقة بحكم تناقضاتها الحركية.
وقد تبينّا فيما قدّمناه: مدى خطأ الفكرة الاولى عن حركة الحقيقة وتطوّرها، وسوف نعرض بكلّ تفصيل للفكرة الثانية عند تناول الديالكتيك بالدرس المستوعب في المسألة الثانية (المفهوم الفلسفي للعالم)، وسوف يزداد وضوحاً عند ذاك الخطأ والاشتباه في قوانين الديالكتيك بصورة عامّة، وفي تطبيقه على الفكرة بصورة خاصّة.
ومن الواضح: أنّ تطبيق قوانين الديالكتيك من التناقض والتطوّر على الأفكار والحقائق بالشكل المزعوم، يؤدّي إلى انهيار القيمة المؤكّدة لجميع المعارف والأحكام العقلية مهما كانت واضحة وبدهية. وحتّى الأحكام المنطقية أو الرياضية البسيطة تفقد قيمتها؛ لأنّها تخضع- بموجب التناقضات المحتواة فيها على الرأي الديالكتيكي- لقوانين التطوّر والتغيّر المستمرّ، فلا يؤمن على ما ندركه الآن من الحقائق- نظير 2+ 2/ 4 والجزء أصغر من الكلّ- أن يتغيّر

217

وقد فاتها أ نّها تقضي على مذهبها بالحماس لهذا القانون؛ لأنّ الحركة إذا كانت قانوناً عاماً للحقائق فسوف يتعذّر إثبات أ يّة حقيقة مطلقة، وبالتالي يسقط قانون الحركة بالذات عن كونه حقيقة مطلقة.
فمن الطريف أنّ الماركسية تؤكّد على حركة (الحقيقة) وتغيّرها طبقاً لقانون الديالكتيك، وتعتبر أنّ هذا الكشف هو النقطة المركزية لنظريتهم في المعرفة، وتتغافل عن أنّ هذا الكشف بنفسه حقيقة من تلك الحقائق التي آمنوا بحركتها وتغيّرها، فإذا كانت هذه (الحقيقة) تتحرّك وتتغيّر كما تتحرّك سائر الحقائق بالطريقة الديالكتيكية، فهي تحتوي على تناقض سوف ينحلّ بتطوّرها وتغيّرها كما يحتّم ذلك الديالكتيك، وإذا كانت هذه (الحقيقة) مطلقة لا تتحرّك ولا تتغيّر، كفى ذلك ردّاً على تعميم قانون الديالكتيك والحركة للحقائق والمعارف، وبرهاناً على أنّ (الحقيقة) لا تخضع لُاصول الحركة الديالكتية. فالديالكتيك الذي يراد إجراؤه على الحقائق والمعارف البشرية، ينطوي على تناقض فاضح وحكم صريح بإعدام نفسه على كلا الحالين. فهو إذا اعتبر حقيقة مطلقة انتقضت قواعده، وتجلّى أنّ الحركة الديالكتيكية لا تسيطر على دنيا الحقائق؛ لأنّها لو كانت تسيطر عليها لما وجدت حقيقة مطلقة ولو كانت هذه الحقيقة هي الديالكتيك نفسه. وإذا اعتبر حقيقة نسبية خاضعة للتطوّر والحركة بمقتضى تناقضاتها الداخلية، فسوف تتغيّر هذه الحقيقة ويزول المنطق الديالكتيكي، ويصبح نقيضه حقيقة قائمة.

[ب-] اجتماع الحقيقة والخطأ:

سبق فيما عرضنا من نصوص الماركسية أ نّها تعيب على المنطق الشكلي- على حدّ تعبيرها- إيمانه بالتعارض المطلق بين الخطأ والحقيقة، مع أ نّهما

216

كانت مطابقة للواقع في ظرف معيّن، فلا يمكن أن تعود بعد ذلك فتخالف الواقع في ذلك الظرف بالذات، أقول: إذا علمنا ذلك كلّه يتجلّى بوضوح الخطأ في تطبيق قانون الحركة على الحقيقة؛ لأنّ الحركة تثبت التغيّر في الحقيقة، وتجعلها- دائماً- حقيقة نسبية وموقّتة بمرحلتها الخاصّة من التطوّر، وقد عرفنا أ نّه لا تغيّر ولا توقيت في الحقائق، كما أنّ التطوّر والتكامل في الحقيقة يعني: أنّ الفكرة تصبح بالحركة حقيقة بشكل أقوى، كما أنّ الحرارة ترتقي بالحركة إلى درجة أكبر، مع أنّ الحقيقة تختلف عن الحرارة. فالحرارة يمكن أن تشتدّ وتقوى، وأمّا الحقيقة فهي- كما عرفنا- تعبّر عن الفكرة المطابقة للواقع، ولا يمكن أن تقوى مطابقة الفكرة للواقع وتشتدّ كما هو شأن الحرارة، وإنّما يجوز أن ينكشف للفكر الإنساني جانب جديد من ذلك الواقع لم يكن يعلم به قبل ذلك، غير أنّ هذا ليس تطوّراً للحقيقة المعلومة سلفاً، وإنّما هو حقيقة جديدة يضيفها العقل إلى الحقيقة السابقة.
فإذا كنّا نعرف- مثلًا- أنّ ماركس تأثّر بمنطق هيجل، فهذه المعرفة هي الحقيقة الاولى التي عرفناها عن علاقة ماركس بفكر هيجل. وحين نطالع بعد ذلك تأريخه وفلسفته نعرف أ نّه كان على النقيض من مثالية هيجل، كما نعرف أ نّه اتّخذ جدله فطبّقه تطبيقاً مادّياً على التأريخ والاجتماع، إلى غير ذلك من العلاقات الفكرية بين الشخصين. فكلّ هذه معارف جديدة تكشف عن جوانب مختلفة من الواقع، وليست نموّاً وتطوّراً للحقيقة الاولى التي حصلنا عليها منذ البدء.
وليس تحمّس المدرسة الماركسية لإخضاع (الحقيقة) لقانون الحركة والتطوّر، إلّالأجل القضاء على الحقائق المطلقة التي تؤمن بها الفلسفة الميتافيزيقية.

215

بصعود حرارته إلى درجة أكبر. فليس للماء في هذا الحال درجة حرارة مطلقة.
هذا هو حال الواقع الموضوعي القائم في الخارج، فإذا قسنا حرارته في لحظة معيّنة، فكانت الحرارة فيه حال تأثّر المقياس بها قد بلغت (90) مثلًا، فقد حصلنا على حقيقة عن طريق التجربة، وهذه الحقيقة هي: أنّ درجة حرارة الماء في تلك اللحظة المعيّنة كانت (90). وإنّما نقول عنها: إنّها حقيقة؛ لأنّها فكرة تأكّدنا من مطابقتها للواقع، أي: لواقع الحرارة في لحظة خاصّة. ومن الطبيعي أنّ حرارة الماء سوف لا تقف عند هذه الدرجة، بل إنّها سوف تتصاعد حتّى تبلغ درجة الغليان.
ولكنّ الحقيقة التي اكتسبناها هي: (الحقيقة) لم تتغيّر، بمعنى: أ نّا متى لاحظنا تلك اللحظة الخاصّة التي قسنا حرارة الماء فيها، نحكم- بكلّ تأكيد- بأنّ حرارة الماء كانت بدرجة (90). فدرجة (90) من الحرارة التي بلغها الماء وإن كانت درجة موقّتة بلحظة خاصّة من الزمان وسرعان ما اجتازتها الحرارة إلى درجة أكبر منها، إلّاأنّ الفكرة التي حصلت لنا بالتجربة- وهي: أنّ الحرارة في لحظة معيّنة كانت في درجة (90)- فكرة صحيحة وحقيقة مطلقة، ولذا نستطيع أن نؤكّد صدقها دائماً. ولا نعني بالتأكيد على صدقها بصورة دائمة: أنّ درجة (90) كانت هي الدرجة الثابتة لحرارة الماء على طول الخطّ؛ فإنّ الحقيقة التي اكتسبناها بالتجربة لا تتناول حرارة الماء إلّافي لحظة معيّنة، فحين نصفها بأ نّها حقيقة مطلقة وليست موقّتة، نريد بذلك: أنّ الحرارة في تلك اللحظة المعيّنة قد تعيّنت في درجة (90) بشكل نهائي، فالماء وإن جاز أن تبلغ حرارته درجة (100)- مثلًا- عقيب تلك اللحظة، ولكن من غير الجائز أن يعود ما عرفناه من درجة الحرارة عن تلك اللحظة الخاصّة خطأ بعد أن كان حقيقة.
وإذا عرفنا أنّ (الحقيقة) هي: الفكرة المطابقة للواقع، وتبينّا أنّ الفكرة إذا

214

فيجب- إذن- لأجل رفض تلك النزعات حقّاً، أن تأخذ الماركسية (الحقيقة) بمفهومها الواقعي الذي ترتكز عليه الفلسفة الواقعية؛ حتّى يمكن اعتبارها فلسفة واقعية مؤمنة بالقيم الموضوعية للفكر حقّاً.
وإذا عرفنا المفهوم الواقعي الصحيح (للحقيقة)، حان لنا أن نتبيّن ما إذا كان من الممكن (للحقيقة) بهذا المفهوم الذي تقوم على أساسه الواقعية أن تتطوّر وتتغيّر بحركة صاعدة كما تعتقد الماركسية أو لا؟
إنّ (الحقيقة) لا يمكن أن تتطوّر وتنمو، وأن تكون محدودة في كلّ مرحلة من مراحل تطوّرها بحدود تلك المرحلة الخاصّة، بل لا تخرج الفكرة- كلّ فكرة- عن أحد أمرين: فهي إمّا حقيقة مطلقة وإمّا خطأ.
وأنا أعلم أنّ هذه الكلمات تثير اشمئزاز الماركسيين، وتجعلهم يقذفون الفكر الميتافيزيقي بما تعوّدوا إلصاقه به من تهم، فيقولون: إنّ الفكر الميتافيزيقي يجمد الطبيعة ويعتبرها حالة ثبات وسكون؛ لأنّه يعتقد بالحقائق المطلقة، ويأبى عن قبول مبدأ التطوّر والحركة فيها، وقد انهار مبدأ الحقائق المطلقة تماماً باستكشاف تطوّر الطبيعة وحركتها.
ولكنّ الواقع الذي يجب أن يفهمه قارئنا العزيز: أنّ الإيمان بالحقائق المطلقة ورفض التغيّر والحركة فيها، لا يعني مطلقاً تجميد الطبيعة، ولا ينفي تطوّر الواقع الموضوعي وتغيّره. ونحن في مفاهيمنا الفلسفية نعتقد بأنّ التطوّر قانون عام في عالم الطبيعة، وأنّ كينونته الخارجية في صيرورة مستمرّة، ونرفض في نفس الوقت كلّ توقيت للحقيقة وكلّ تغيّر فيها.
ولنفرض- لإيضاح ذلك- أنّ سبباً معيّناً جعل الحرارة تشتدّ في ماء خاصّ، فحرارة هذا الماء بالفعل في حركة مستمرّة وتطوّر تدريجي. ومعنى ذلك:
أنّ كلّ درجة من الحرارة يبلغها الماء فهي درجة موقّتة، وسوف يعبرها الماء

213

واختلافها في كثير من الأحايين. بل لا يمكن البت- حينئذٍ- بحقيقة مهما كانت، ما لم تمرّ بتجربة اجتماعية طويلة الأمد. ومعنى ذلك: أنّ (جيمس) نفسه لا يمكنه أن يعتبر مذهبه (البراجماتزم) صحيحاً ما لم يمرّ بهذه التجربة، ويثبت جدارته في الحياة العملية. وهكذا يوقف المذهب نفسه.

ثالثاً- أنّ وجود مصلحة للإنسان في صدق فكرة ما، لا يكفي لإمكان التصديق بها. فالملحد لا يمكنه أن يصدّق بالدين ولو آمن بدوره الفعّال في تسلية الإنسان، وإنعاش آماله ومؤاساته في حياته العملية. فهذا (جورج سنتيانا) يصف الإيمان بأ نّه «غلطة جميلة، أكثر ملاءمة لنوازع النفس من الحياة نفسها»[1]. فليس التصديق بفكرة نظير الألوان الاخرى من النشاط العملي التي يمكن للإنسان أن يقوم بها إذا تحقّق من فائدتها. وهكذا يقوم (البراجماتزم) على عدم التفرقة بين التصديق (النشاط الذهني الخاصّ) ومختلف النشاطات العملية التي يباشرها الإنسان على ضوء مصالحه وفوائده.

ونخلص من هذه الدراسة إلى أنّ المفهوم الوحيد (للحقيقة) الذي يمكن للفلسفة الواقعية اتّخاذه، هو: (الفكرة المطابقة للواقع).

والماركسية التي تنادي بإمكان المعرفة الحقيقية، وترفض لأجل ذلك النزعات التصوّرية والشكّية والسفسطائية، إن كانت تعني ب (الحقيقة) مفهوماً آخر غير مفهومها الواقعي، فهي لا تتعارض مع تلك المذاهب مطلقاً؛ لأنّ مذاهب الشكّ والسفسطة إنّما ترفض (الحقيقة) بمعنى الفكرة المطابقة للواقع، ولا ترفض لفظ (الحقيقة) بأيّ مفهوم كان. فلا يمكن للماركسية أن تبرأ من نزعات الشكّ والسفسطة لمجرّد اتّخاذ لفظ (الحقيقة) وبلورته في مفهوم جديد.

 

[1] قصّة الفلسفة الحديثة 2: 402