کتابخانه
248

عليها فهم جديد للعالم، وتنشأ [بها][1] نظرية جديدة نحوه، تختلف كلّ الاختلاف عن النظرة الكلاسيكية التي اعتادها البشر منذ قُدّر له أن يدرِك ويفكّر.

وليس (هيجل) هو الذي ابتدع اصول الديالكتيك ابتداعاً؛ فإنّ لتلك الاصول جذوراً وأعماقاً في عدّة من الأفكار التي كانت تظهر بين حين وآخر على مسرح العقل البشري، غير أ نّها لم تتبلور على اسلوب منطق كامل واضح في تفسيره ونظرته، محدّد في خططه وقواعده، إلّاعلى يد (هيجل). فقد أنشأ (هيجل) فلسفته المثالية كلّها على أساس هذا الديالكتيك، وجعله تفسيراً كافياً للمجتمع، والتأريخ، والدولة، وكلّ مظاهر الحياة. وتبنّاه بعده (ماركس) فوضع فلسفته المادّية في تصميم ديالكتيكي خالص.

فالجدل الجديد في زعم الديالكتيكيين قانون للفكر والواقع على السواء.

ولذلك فهو طريقة للتفكير، ومبدأ يرتكز عليه الواقع في وجوده وتطوّره.

قال لينين:

«فإذا كان ثمّة تناقضات في أفكار الناس؛ فذلك لأنّ الواقع الذي يعكسه فكرنا يحوي تناقضات. فجدل الأشياء ينتج جدل الأفكار، وليس العكس»[2].

وقال ماركس:

«ليست حركة الفكر إلّاانعكاساً لحركة الواقع، منقولة ومحوّلة في مخ الإنسان»[3].

 

والمنطق (الهيجلي) بما قام عليه من أساس الديالكتيك والتناقض، يعتبر في النقطة المقابلة للمنطق الكلاسيكي، أو المنطق البشري العامّ تماماً؛ ذلك أن‏

[1] في الطبعة الاولى: به، والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.( لجنة التحقيق)

[2] المادّية والمثالية في الفلسفة: 83

[3] المادّية والمثالية في الفلسفة: 83

247

إنّ الجدل كان يعني في المنطق الكلاسيكي طريقة خاصّة في البحث، واسلوباً من أساليب المناظرة التي تطرح فيها المتناقضات الفكرية ووجهات النظر المتعارضة، بقصد أن تحاول كلّ واحدة منها أن تظهر ما في نقيضها من نقاط الضعف ومواطن الخطأ على ضوء المعارف المسلّمة والقضايا المعترف بها سلفاً.
وهكذا يقوم الصراع بين النفي والإثبات في ميدان البحث والجدل حتّى ينتهي إلى نتيجة تتقرّر فيها إحدى وجهات النظر المتصارعة، أو تنبثق عن الصراع الفكري بين المتناقضات وجهة رأي جديدة توفّق بين الوجهات كلّها، بعد إسقاط تناقضاتها، وإفراز نقاط الضعف من كلّ واحدة منها.
ولكنّ الجدل في الديالكتيك الجديد، أو الجدل الجديد، لم يعد منهجاً في البحث واسلوباً لتبادل الآراء، بل أصبح طريقة لتفسير الواقع، وقانوناً كونياً عاماً ينطبق على مختلف الحقائق وألوان الوجود. فالتناقض ليس بين الآراء ووجهات النظر فحسب، بل هو ثابت في صميم كلّ واقع وحقيقة، فما من قضية إلّاوهي تنطوي في ذاتها على نقيضها ونفيها.
وكان (هيجل) أوّل من أشاد منطقاً كاملًا على هذا الأساس، فكان التناقض الديالكتيكي هو النقطة المركزية في ذلك المنطق، والقاعدة الأساسية التي يقوم‏

246

245

المفهوم الفلسفي للعالم‏

2

الديالكتيك أو الجدل‏

1- حركة التطوّر.
2- تناقضات التطوّر.
3- قفزات التطوّر.
4- الارتباط العامّ.

244

وقد أصرّت الماركسية على وضع التجربة مقياساً أعلى، وتخلّصت من هذا المأزق بوضع قانون الحركة والتطوّر في العلوم والأفكار؛ نظراً إلى أنّ الفكر جزء من الطبيعة، وهو بهذا الاعتبار يحقّق قوانين الطبيعة كاملة، فيتطوّر وينمو كما تتطوّر الطبيعة. وليس التطوّر العلمي يعني سقوط المفهوم العلمي السابق، وإنّما يعبّر عن حركة تكاملية في الحقيقة والمعرفة. فالحقيقة والمعرفة هي الحقيقة والمعرفة، غير أ نّها تنمو وتتحرّك وتتصاعد بصورة مستمرّة.
وهكذا قضى بذلك على جميع البدهيات والحقائق؛ لأنّ كلّ فكر سائر في سراط التطوّر والتغيّر، فليست توجد حقيقة ثابتة في دنيا الفكر مطلقاً، ولا يؤمن على ما ندركه الآن من البديهيات- نظير إدراكنا: أنّ الكلّ أكبر من الجزء، وأنّ 2+ 2/ 4- أن يكتسب شكلًا آخر في حركته التطوّرية، فندرك الحقيقة عند ذاك على وجه آخر.
ولمّا كانت الحركة التي وضعتها الماركسية كقانون للفكر وللطبيعة بصورة عامّة لا تنبثق إلّاعن قوّة وسبب، ولم تكن في العالم حقيقة إلّاالمادّة في زعمها، فقد قالت: إنّ الحركة حصيلة تناقضات في المحتوى الداخلي للمادّة، وإنّ هذه المتناقضات تتصارع فتدفع بالمادّة وتطوّرها. ولهذا ألغت الماركسية مبدأ عدم التناقض، واتّخذت من الديالكتيك طريقة لفهم العالم، ووضعت مفهومها المادّي في إطاره.
وهكذا يتّضح: أنّ جميع الجوانب الفلسفية للمادّية الديالكتيكية، مرتبطة بالنقطة المركزية (المفهوم المادّي)، وقد صيغت لأجل تركيزها والحفاظ عليها.
وليس إسقاط البديهيات وجعلها عرضةً للتغيّر، أو الإيمان بالتناقض واعتباره قانوناً عاماً للطبيعة، وما إليها من النتائج الغريبة التي انتهت إليها الماركسية، إلّا تسلسلًا حتمياً للانطلاق الذي بدأ من المفهوم المادّي الماركسي، وتبريراً له في المجال الفلسفي.

243

الوجود والعالم، ورفضت مذهب الشكّ المطلق، وحتّى النسبية الجامدة، وحاولت بذلك أن تعطي صفة قطعية للمحور الرئيسي، أي: المفهوم المادّي.
ووضعت بعد ذلك المقياس العام للمعرفة والحقيقة في التجربة، واستبعدت المعارف العقلية الضرورية، وأنكرت وجود منطق عقلي مستقلّ عن التجربة؛ كلّ ذلك حذراً من إمكان محو النقطة المركزية بالمنطق العقلي، وحدّاً للطاقة البشرية بالميدان التجريبي خاصّة.
وواجهت الماركسية في هذه المرحلة مشكلة جديدة، وهي: أنّ الميزان الفكري للإنسان إذا كان هو الحسّ والتجربة، فلا بدّ أن تكون المعلومات التي يكوّنها عن طريق الحسّ والتجربة صحيحة دائماً، ليمكن اعتبارها ميزاناً أوّلياً توزن به الأفكار والمعارف، فهل نتائج الحسّ العلمي كذلك حقّاً؟ وهل النظريات القائمة على التجربة مضمونة الصدق أبداً؟
وهكذا وقعت الماركسية بين خطرين:
فإن اعترفت بأنّ المعلومات القائمة على أساس التجربة ليست معصومة من الخطأ، فقد سقطت التجربة عن كونها ميزاناً أوّلياً للحقائق والمعارف.
وإن ادّعى الماركسيون أنّ النظرية المستمدّة من التجربة والتطبيق فوق الخطأ والاشتباه، اصطدموا بالواقع الذي لا يسع لأحد إنكاره، وهو: أنّ كثيراً من النظريات العلمية، بل القوانين التي توصّل إليها الإنسان عن طريق درس الظواهر المحسوسة، قد ظهر خطؤها وعدم مطابقتها للواقع، فسقطت عن عرشها العلمي بعد أن تربّعت عليه مئات السنين.
وإذا كانت المفاهيم العلمية التجريبية قد تخطئ، وكان المنطق العقلي ساقطاً من الحساب، فكيف يُعلَن عن فلسفة يقينية؟! أو تشاد مدرسة ذات صفة جزمية في أفكارها؟!

242

حطام المادّية الميكانيكية.

وأمّا الاتّجاه المادّي الآخر الذي يفسّر العالم تفسيراً مادّياً بقوانين الديالكتيك، فهو الاتّجاه الذي اتّخذته المدرسة الماركسية، فوضعت مفهومها المادّي عن العالم على أساس هذا الاتّجاه.

قال ستالين:

«تسير مادّية ماركس الفلسفيّة من المبدأ القائل: إنّ العالم بطبيعته مادّي، وإنّ حوادث العالم المتعدّدة هي مظاهر مختلفة للمادّة المتحرّكة، وإنّ العلاقات المتبادلة بين الحوادث وتكييف بعضها بعضاً بصورة متبادلة كما تقرّرها الطريقة الديالكتيكية، هي قوانين ضرورية لتطوّر المادّة المتحرّكة، وإنّ العالم يتطوّر تبعاً لقوانين حركة المادّة، وهو ليس بحاجة لأيّ عقل كلّي»[1].

ويُعتبر المفهوم المادّي (المادّة/ الوجود) هو النقطة المركزية في الفلسفة الماركسية؛ لأنّها التي تحدّد نظرة الماركسية إلى الحياة، وتنشئ لها فهماً خاصّاً للواقع وقيمه، ومن دونها لا يمكن أن تقام الاسس المادّية الخالصة للمجتمع والحياة.

وقد فرضت هذه النقطة على المذهب الماركسي تسلسلًا فكرياً خاصّاً، واقتضت منه أن يقيم شتّى جوانبه الفلسفية لصالحها.

فلأجل أن تملك الماركسية الحقّ في تقرير النقطة المركزية تقريراً نهائياً، اختارت أن تكون يقينية، كما عرفنا في نظرية المعرفة، وأعلنت أنّ لدى الإنسان من الطاقات العلمية ما يتيح له الجزم بفلسفة معيّنة عن الحياة، واستكناه أسرار

 

[1] المادّية الديالكتيكية والمادّية التأريخية: 28

241

ونخرج من هذه النقاط بالنتائج التالية:
أوّلًا- أنّ المدرسة المادّية تفترق عن المدرسة الإلهية في ناحية سلبية، أي:
الإنكار لما هو خارج الحقل التجريبي.
ثانياً- أنّ المادّية مسؤولة عن الاستدلال على النفي، كما يجب على الإلهية الاستدلال على الإثبات.
ثالثاً- أنّ التجربة لا يمكن أن تُعتَبر برهاناً على النفي؛ لأنّ عدم وجدان السبب الأعلى في ميدان التجربة، لا يبرهن على عدم وجوده في مجال أعلى لا تمتدّ إليه يد التجربة المباشرة.
رابعاً- أنّ الاسلوب الذي تتّخذه المدرسة الإلهية للاستدلال على مفهومها الإلهي، هو نفس الاسلوب الذي نثبت به علمياً جميع الحقائق والقوانين العلمية.

الاتّجاه الديالكتيكي للمفهوم المادّي:

قلنا: إنّ للمادّية اتّجاهين: أحدهما اتّجاه الآلية الميكانيكية، والآخر اتّجاه المادّية الديالكتيكية.
وقد استعرضنا الاتّجاه الأوّل استعراضاً سريعاً في الجزء الثاني من نظرية المعرفة، حين تناولنا بالدرس والتمحيص المثالية الفيزيائية التي قامت على‏

240

السؤال الثالث- إذا لم تكفِ التجربة العلمية بذاتها للبرهنة على المفهوم الإلهي والمادّي على السواء، فهل يمكن للفكر البشري أن يستدلّ على أحد المفهومين ما داما معاً خارجين عن النطاق التجريبي؟ أو إنّه يصبح مضطراً إلى الاستسلام للشكّ، وتجميد مسألة الإلهية والمادّية، والانصراف إلى المجال العلمي المثمر؟

والجواب: أنّ القدرة الفكرية للبشر كافية لدرس هذه المسألة، والانطلاق فيها من التجربة ذاتها، ولكن لا على أن تكون التجربة هي الدليل المباشر على المفهوم الذي نكوّنه عن العالم، بل تكون التجربة نقطة الابتداء، ويوضع المفهوم الفلسفي الصحيح للعالم- وهو المفهوم الإلهي- على ضوء تفسير التجربة والظواهر التجريبية، بالمعلومات العقلية المستقلّة.

ولا بدّ أنّ القارئ يتذكّر دراستنا- في نظرية المعرفة (المسألة الاولى)- للمذهب العقلي، وكيف أوضحنا بالبرهان وجود معارف عقلية مستقلّة، على شكل تبيّن أنّ إضافة معارف عقلية إلى التجربة أمر ضروري لا في مسألتنا الفلسفية فحسب، بل في جميع المسائل العلمية. فما من نظرية علمية ترتكز على أساس تجريبي بحت، وإنّما تقوم على أساس التجربة، وعلى ضوء المعلومات العقلية المستقلّة. فلا تختلف قضيّتنا الفلسفية التي تتناول البحث عمّا وراء عالم الطبيعة، عن كلّ قضية علمية تبحث عن أحد قوانين الطبيعة، أو تكشف شيئاً من قواها وأسرارها. فالتجربة في جميع ذلك نقطة الانطلاق، وهي مع ذلك بحاجة إلى تفسير عقلي لتستنتج منها الحقيقة الفلسفية أو العلمية[1].

 

[1] وقد أشرنا في بحث( نظريّة المعرفة) إلى أنّ السيّد المؤلّف قدس سره توصّل بعد تأليفه لهذا الكتاب إلى مذهب جديد للمعرفة في مقابل المذهب العقلي والتجريبي، وهو المذهب الذاتي للمعرفة، وفي ضوء هذا المذهب وإن كنّا بحاجة إلى ضمّ بعض المعارف العقليّة التي لا مناص عنها إلى التجربة، كالمعرفة العقليّة القائلة باستحالة اجتماع النقيضين، ولكن يمكن أن ينتقل الذهن- في ضوء المذهب المذكور- من استقراء الموضوعات الجزئيّة الخاضعة للتجربة إلى قواعد وقوانين عامّة، بحيث يكون السير الفكري فيها من الخاصّ إلى العامّ، ولا حاجة فيها إلى ضمّ المعارف العقليّة القبليّة التي تحوّل السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ، كما يدّعيه أصحاب المذهب العقلي للمعرفة.( لجنة التحقيق)