کتابخانه
266

الماركسيين؛ إذ لا تناقض ولا صراع، فيجب أن يوجد التعليل، وأن يكون التعليل بشي‏ء خارج حدود الطبيعة؛ لأنّ أيّ شي‏ء موجود في الطبيعة فوجوده حركة وتدرّج؛ إذ لا ثبات في عالم الطبيعة بموجب قانون الحركة العامّة، فلا يمكن أن نقف بالتعليل عند شي‏ء طبيعي.

النقطة الثانية- أنّ الحركة في الرأي الماركسي لا تقف عند حدود الواقع الموضوعي للطبيعة، بل تعمّ الحقائق والأفكار البشرية أيضاً. فكما يتطوّر الواقع الخارجي للمادّة وينمو، كذلك تخضع الحقيقة والإدراكات الذهنية لنفس قوانين التطوّر والنموّ التي تجري على دنيا الطبيعة، وعلى هذا الأساس لا توجد في المفهوم الماركسي للفكرة حقائق مطلقة.

قال لينين:

«فالديالكتيك هو إذن- في نظر ماركس- علم القوانين العامّة للحركة، سواءٌ في العالم الخارجي أم الفكر البشري»[1].

وعلى العكس من ذلك قانون الحركة العامّة في رأينا؛ فإنّه قانون طبيعي يسود عالم المادّة، ولا يشمل دنيا الفكر والمعرفة. فالحقيقة أو المعرفة لا يوجد فيها ولا يمكن أن يوجد فيها تطوّر بمعناه الفلسفي الدقيق، كما أوضحنا ذلك بكلّ جلاء في المسألة الاولى (نظرية المعرفة).

 

[محاولات الماركسيّة للاستدلال على ديالكتيك الفكر:]

 

وما نرمي إليه الآن من درس الحركة الديالكتيكية المزعومة في المعرفة أو الحقيقة، هو: استعراض المحاولات الرئيسية التي اتّخذتها الماركسية للاستدلال على ديالكتيك الفكر وحركته. وتتلخّص في ثلاث محاولات:

 

[1] ماركس، أنجلس والماركسية: 24

265

غير معقول؛ لأنّه يؤدّي إلى لون من التناقض‏[1]. وقد أوضح المحقّقون من الفلاسفة أ نّها نشأت من عدم الوعي الصحيح لمعنى التدرّج والوجود التدريجي‏[2].

ولمّا كنّا نعرف- الآن- بكلّ وضوح أنّ الحركة ليست صراعاً بين فعليات متناقضة دائماً، بل هي تشابك بين القوّة والفعل، وخروج تدريجي للشي‏ء من أحدهما إلى الآخر، نستطيع أن ندرك أنّ الحركة لا يمكن أن تكتفي ذاتياً عن السبب، وأنّ الوجود المتطوّر لا يخرج من القوّة إلى الفعل إلّالسبب خارجي، وليس الصراع بين التناقضات هو العلّة الداخلية لذلك؛ إذ ليست في الحركة وحدة للتناقضات والأضداد لتنجم الحركة عن الصراع بينها. فما دام الوجود المتطوّر في لحظة انطلاق الحركة خالياً من الدرجات أو النوعيات التي سوف يحصل عليها في مراحل الحركة، ولم يكن في محتواه الداخلي إلّاإمكان تلك الدرجات، والاستعداد لها، فيجب أن يوجد سبب لإخراجه من القوّة إلى الفعل، لتبديل الإمكان الثابت في محتواه الداخلي إلى حقيقة.

وبهذا نعرف أنّ قانون الحركة العامّة في الطبيعة يبرهن بنفسه على ضرورة وجود مبدأ خارج حدودها المادّية؛ ذلك أنّ الحركة بموجب هذا القانون هي:

كيفية وجود الطبيعة. فوجود الطبيعة عبارة اخرى عن حركتها وتدرّجها، وخروجها المستمرّ من الإمكان إلى الفعلية. وقد انهارت لدينا نظرية الاستغناء الذاتي للحركة بتناقضاتها الداخلية التي تنبثق الحركة عن الصراع بينها في زعم‏

 

[1] المباحث المشرقيّة 1: 549- 450، لفخر الدين الرازي

[2] الأسفار الأربعة 3: 26

264

إمكان الاجتماع بين النقائض والمتقابلات، الذي يفرض على الموجود المتطوّر التغيّر المستمرّ لدرجته وحدّه. وليس التناقض أو الديالكتيك المزعوم في الحركة إلّا باعتبار الخلط بين القوّة والفعل.
فالحركة في كلّ مرحلة لا تحتوي على درجتين، أو فعليتين متناقضتين، وإنّما تحتوي على درجة خاصّة بالفعل، وعلى درجة اخرى بالقوّة؛ ولذلك كانت الحركة خروجاً تدريجياً من القوّة إلى الفعل.
ولكنّ عدم الوعي الفلسفي الكامل هو الذي صار سبباً في تزوير مفهوم الحركة.
وهكذا يتّضح: أنّ قانون (نقض النقض)، وتفسير الحركة به، وكلّ ما احيط به ذلك من ضوضاء وضجيج وصخب وسخرية بالأفكار الميتافيزيقية التي تؤمن بمبدأ (عدم التناقض)، إنّ كلّ ذلك مردّه إلى المفهوم الفلسفي الذي عرضناه للحركة، والذي أساءت الماركسية فهمه، فاعتبرت تشابك القوّة والفعل أو اتّحادهما في جميع مراحل الحركة، عبارة عن اجتماع فعليات متقابلة، وتناقض مستمرّ، وصراع بين المتناقضات، فرفضت لأجل ذلك مبدأ (عدم التناقض)، وأطاحت بالمنطق العام كلّه.
وليست هذه المحاولة الماركسية هي الاولى في بابها؛ فإنّ بعض المفكّرين الميتا فيزيقيين حاولوا شيئاً من ذلك في التأريخ الفلسفي القديم مع فارق واحد، وهو: أنّ الماركسية أرادت أن تبرّر التناقض بهذه المحاولة، وأمّا اولئك فحاولوا أن يبرهنوا على سلبية إمكان الحركة، باعتبار انطوائها على التناقض.
وللفخر الرازي محاولة من هذا القبيل أيضاً، ذكر فيها: أنّ الحركة عبارة عن التدرّج، أي: وجود الشي‏ء على سبيل التدريج، وزعم أنّ التدرّج في الوجود

263

هذه النظرة بأ نّنا مغمورون في التناقضات، فالحركة نفسها هي تناقض. إنّ أبسط تغيّر ميكانيكي في المكان لا يمكن أن يحدث إلّابواسطة كينونة جسم ما، في مكان ما، في لحظة ما، وفي نفس تلك اللحظة كذلك، في غير ذلك المكان، أي:

كينونته وعدم كينونته معاً في مكان واحد، في نفس اللحظة الواحدة، فتتابع هذا التناقض تتابعاً مستمرّاً، وحلّ هذا التناقض حلًا متواقتاً مع هذا التتابع، هو ما يسمّى بالحركة»[1].

انظروا ما أسخف مفهوم الحركة في المادّية الجدلية، هذا المفهوم الذي يشرحه (أنجلز) على أساس (التناقض)، وهو لا يعلم أنّ درجتين من الحركة لو كانتا موجودتين بالفعل في مرحلة معيّنة منها، لما أمكن التطوّر، وبالتالي لجمدت الحركة؛ لأنّ الحركة انتقال للموجود من درجة إلى درجة، ومن حدّ إلى حدّ، فلو كانت الحدود والنقاط كلّها مجتمعة بالفعل، لما وجدت حركة، فمن الضروري أن لا تُفسَّر الحركة إلّاعلى ضوء مبدأ (عدم التناقض)، وإلّا- لو جاز التناقض- فمن حقّنا أن نتساءل: هل إنّ الحركة تنطوي على التغيّر في درجات الشي‏ء المتطوّر، والتبدّل في حدوده ونوعيّته أو لا؟ فإن لم يكن فيها شي‏ء من التغيّر والتجدّد، فليست هي حركة، بل هي جمود وثبات. وإن اعترفت الماركسية بالتجدّد والتغيّر في الحركة فلماذا هذا التجدّد إذا كانت المتناقضات كلّها موجودة بالفعل ولم يكن بينها تعارض؟

إنّ أبسط تحليل للحركة يطلعنا على أ نّها مظهر من مظاهر التمانع، وعدم‏

 

[1] ضد دوهرنك: 202

262

للحركة بمعناها الفلسفي الصحيح.
فما هو الفارق بين الحركة وقانونها العامّ في (فلسفتنا)، ونظرية الحركة الديالكتيكية في المادّية الجدلية؟
إنّ الاختلاف بين الحركتين يتلخّص في نقطتين أساسيّتين:
النقطة الاولى- أنّ الحركة في مفهومها الديالكتيكي تقوم على اساس التناقض والصراع بين المتناقضات، فهذا التناقض والصراع هو القوّة الداخلية الدافعة للحركة والخالقة للتطوّر. وعلى عكس ذلك في مفهومنا الفلسفي عن الحركة فإنّه يعتبر الحركة سيراً من درجة إلى درجة مقابلة، من دون أن تجتمع تلك الدرجات المتقابلة في مرحلة واحدة من مراحل الحركة.
ولأجل أن يتّضح ذلك يجب أن نميّز بين القوّة والفعل، ونحلّل المغالطة الماركسية التي ترتكز على اعتبار القوّة والفعل وحدة متناقضة:
إنّ الحركة مركّبة من قوّة وفعل. فالقوّة والفعل متشابكان في جميع أدوار الحركة، ولا يمكن أن توجد ماهية الحركة دون أحد هذين العنصرين، فالوجود في كلّ دور من أدوار سيره التكاملي، يحتوي على درجة معيّنة بالفعل، وعلى درجة أرقى منها بالقوّة، فهو في اللحظة التي يتكيّف فيها بتلك الدرجة يسير في اتّجاه متصاعد ويتخطّى درجته الحاضرة.
وقد خُيّل للماركسية أنّ هذا لون من التناقض، وأنّ الوجود المتطوّر يحتوي على الشي‏ء ونقيضه، وأنّ هذا الصراع بين النقيضين هو الذي يولّد الحركة.
قال أنجلز:
«إنّ الوضع يختلف كلّ الاختلاف؛ إذ ننظر إلى الكائنات وهي في حالة حركتها، في حالة تغيّرها، في حالة تأثيراتها المتبادلة على بعضها البعض، حيث نجد أنفسنا بدء

261

ولم يبرهن الفيلسوف (الشيرازي) على الحركة الجوهرية فحسب، بل أوضح أنّ مبدأ الحركة في الطبيعة من الضرورات الفلسفية للميتافيزيقية. وفسّر على ضوئه صلة الحادث بالقديم‏[1] وعدّة من المشاكل الفلسفية الاخرى: كمشكلة الزمان‏[2] ومسألة تجرّد المادّة، وعلاقة النفس بالجسم‏[3].

فهل يصحّ بعد هذا كلّه اتّهام الإلهية أو الميتافيزيقا بأ نّها تؤمن بجمود الطبيعة وسكونها؟!

والحقيقة: أنّ هذا الاتّهام لا مبرّر له إلّاسوء فهم المادّية الديالكتيكية

 

______________________________

– وبسببها تحصل الحركة السطحية في ظواهر الجسم وأعراضه.
وليس في المستطاع الآن أن نعرض الحركة الجوهرية وبراهينها بأكثر من هذه اللمحة. (المؤلّف قدس سره)، يراجع الأسفار الأربعة 3: 61، الفصل 19، و: 46، الفصل 20. والجزء 4: 273، بحث وتدقيق‏

[1] والمشكلة في صلة الحادث بالقديم هي: أنّ العلّة باعتبارها قديمة وأزلية يجب أن تكون علّة لما يناسبها، ويتّفق معها في القدم والأزلية. وعلى هذا الأساس خُيِّل لعدّة من الميتا فيزيقيين: أنّ الإيمان بالخالق الأزلي يحتّم من ناحية فلسفية الاعتقاد بقدم العالم وأزليّته؛ لئلّا ينفصل المعلول عن علّته. وقد حلّ الشيرازي هذه المشكلة على ضوء الحركة الجوهرية القائلة: إنّ عالم المادّة في تطوّر وتجدّد مستمرّ، فإنّ حدوث العالم على هذا الأساس كان نتيجة حتمية لطبيعته التجدّدية، ولم يكن لأجل حدوث العلّة وتجدّد الخالق الأوّل.( المؤلّف قدس سره)، راجع الأسفار الأربعة 3: 128، الفصل 33، و: 68، الفصل 21

[2] فقد قدّم( الشيرازي) تفسيراً جديداً للزمان، يردّه فيه إلى الحركة الجوهرية للطبيعة، وبهذا أصبح الزمان في مفهومه الفلسفي هذا مقوِّماً للجسم، ولم يعد شيئاً مجرّداً مستقلًا عنه.( المؤلّف قدس سره)، يلاحظ الأسفار الأربعة 3: 115- 118، الفصل 30

[3] سوف نعرض لتجرّد المادّة، وعلاقة النفس بالجسم، في الجزء الأخير من هذه المسألة.( المؤلّف قدس سره)، يراجع الأسفار الأربعة 8: 343، الفصل 3

260

______________________________

المتحرّك عن الدفعة الخارجية والعامل المنفصل، وكان الجهاز الميكانيكي المتحرّك يسير مقداراً ما بعد بطلان العامل الآلي المحرّك، وعلى هذا الأساس وضع الميكانيك الحديث قانون القصور الذاتي القائل: إنّ الجسم إذا حُرِّك استمرّ في حركته ما لم يمنعه شي‏ء خارجي عن مواصلة نشاطه الحركي. غير أنّ هذا القانون اسي‏ء استخدامه؛ إذ اعتبر دليلًا على أنّ الحركة حين تنطلق لا تحتاج بعد ذلك إلى سبب خاصّ وعلّة معيّنة، واتّخذ أداة للردّ على مبدأ العلّية وقوانينها.

ولكنّ الصحيح: أنّ التجارب العلمية في الميكانيك الحديث، إنّما تدلّ على أنّ العامل الخارجي المنفصل ليس هو العلّة الحقيقية للحركة، وإلّا لما استمرّت حركة الجسم بعد انفصال الجسم المتحرّك عن العامل الخارجي المستقلّ ويجب لهذا أن تكون العلّة المباشرة للحركة قوّة قائمة بالجسم، وأن تكون العوامل الخارجية شرائط ومثيرات لتلك القوّة.

الثاني- أنّ المعلول يجب أن يكون مناسباً للعلّة في الثبات والتجدّد، فإذا كانت العلّة ثابتة كان المعلول ثابتاً، وإذا كان المعلول متجدّداً ومتطوّراً كانت العلّة متجدّدة ومتطوّرة. ومن الضروري على هذا الضوء أن تكون علّة الحركة متحرّكة ومتجدّدة، طبقاً لتجدّد الحركة وتطوّرها نفسها؛ إذ لو كانت علّة الحركة ثابتة ومستقرّة، لكان كلّ ما يصدر منها ثابتاً ومستقرّاً، فتعود الحركة سكوناً واستقراراً، وهو يناقض معنى الحركة والتطوّر.

وعلى أساس هذين الأمرين نستنتج:

أوّلًا- أنّ القوّة القائمة بالجسم والمحرّكة له، قوّة متحرّكة ومتطوّرة، فهذه القوّة بسبب تطوّرها تكون علّة للحركات العرضية والسطحية جميعاً، وهي قوّة جوهرية؛ إذ لا بدّ أن تنتهي إلى قوّة جوهرية؛ لأنّ العرض يتقوّم بالجوهر. وهكذا ثبتت الحركة الجوهرية في الطبيعة.

ثانياً- أنّ الجسم يأتلف دائماً من مادّة تعرضها الحركات، وقوّة جوهرية متطوّرة،-

259

والفعل أو اتّحادهما في الحركة.

وهذا هو المفهوم الفلسفي الدقيق الذي تعطيه الفلسفة الميتافيزيقية للحركة، وقد أخذته المادّية الديالكتيكية فلم تفهمه ولم تتبيّنه على وجهه الصحيح، فزعمت أنّ الحركة لا تتمّ إلّابالتناقض، التناقض المستمرّ في صميم الأشياء، كما سوف نعرف عن قريب.

وجاء بعد ذلك دور الفلسفة الإسلامية على يد الفيلسوف الإسلامي الكبير (صدر الدين الشيرازي)، فوضع نظرية الحركة العامّة، وبرهن فلسفياً على أنّ الحركة بمفهومها الدقيق الذي عرضناه، لا تمسّ ظواهر الطبيعة وسطحها العرضي فحسب، بل الحركة في تلك الظواهر ليست إلّاجانباً من التطوّر يكشف عن جانب أعمق، وهو التطوّر في صميم الطبيعة وحركتها الجوهرية؛ ذلك أنّ الحركة السطحية في الظواهر لمّا كان معناها التجدّد والانقضاء، فيجب لهذا أن تكون علّتها المباشرة أمراً متجدّداً غير ثابت الذات أيضاً؛ لأنّ علّة الثابت ثابتة، وعلّة المتغيّر المتجدّد متغيّرة متجدّدة، فلا يمكن أن يكون السبب المباشر للحركة أمراً ثابتاً، وإلّا لم تنعدم أجزاء الحركة، بل تصبح قراراً وسكوناً[1].

 

[1] ويتلخّص الاستدلال الرئيسي على الحركة الجوهرية بالأمرين التاليين:

الأوّل- أنّ العلّة المباشرة للحركات العرضية والسطحية في الأجسام- من الميكانيكية والطبيعية- قوّة خاصّة قائمة بالجسم، وهذا المعنى صادق حتّى على الحركات الآلية التي يبدو لأوّل وهلة أ نّها منبثقة عن قوّة منفصلة، كما إذا دفعت بجسم في خطّ افقي أو عمودي، فإنّ المفهوم البدائي من هذه الحركة أ نّها معلولة للدفعة الخارجية والعامل المنفصل، ولكنّ الواقع غير هذا؛ فإنّ العامل الخارجي لم يكن إلّاشرطاً من شروط الحركة. وأمّا المحرّك الحقيقي فهو: القوّة القائمة بالجسم، ولأجل ذلك كانت الحركة تستمرّ بعد انفصال الجسم-

258

الماء بالانفعال والتأثّر بحرارة النار تبدأ حرارته بالحركة والتطوّر، بمعنى: أنّ القوى والإمكانات التي كانت تملكها تتبدّل إلى حقيقة، والماء في كلّ مرحلة من مراحل الحركة يخرج من إمكان إلى فعلية، ولذلك تكون القوّة والفعلية متشابكتين في جميع أدوار الحركة، وفي اللحظة التي تستنفذ جميع الإمكانات تقف الحركة.
فالحركة- إذن- في كلّ مرحلة ذات لونين: فهي من ناحية فعلية وواقعية؛ لأنّ الدرجة التي تسجّلها المرحلة موجودة بصورة واقعية وفعلية. ومن ناحية اخرى هي إمكان وقوّة للدرجات الاخرى الصاعدة التي ينتظر من الحركة أن تسجّلها في مراحلها الجديدة. فالماء في مثالنا إذا لاحظناه في لحظة معيّنة من الحركة، نجد أ نّه ساخن بالفعل بدرجة ثمانين مثلًا، ولكنّه في نفس الوقت ينطوي على إمكان تخطّي هذه الدرجة، وقوّة تطوّر للحرارة إلى أعلى. ففعلية كلّ درجة في مرحلتها الخاصّة مقارنة لقوّة فنائها.
ولنأخذ مثالًا أعمق للحركة، وهو الكائن الحيّ الذي يتطوّر بحركة تدريجية، فهو بويضة، فنطفة، فجنين، فطفل، فمراهق، فراشد. إنّ هذا الكائن في‏مرحلة محدودة من حركته هو نطفة بالفعل، ولكنّه في نفس الوقت شي‏ء آخر مقابل للنطفة وأرقى منها، فهو جنين بالقوّة، ومعنى هذا: أنّ الحركة في هذا الكائن قد ازدوجت فيها الفعلية والقوّة معاً. فلو لم يكن في الكائن الحيّ قوّة درجة جديدة وإمكاناتها لما وجدت حركة، ولو لم يكن شيئاً من الأشياء بالفعل لكان عدماً محضاً، فلا توجد حركة أيضاً. فالتطوّر يأتلف دائماً من شي‏ء بالفعل وشي‏ء بالقوّة. وهكذا تستمرّ الحركة ما دام الشي‏ء يحتوي على الفعلية والقوّة معاً، على الوجود والإمكان معاً، فإذا نفذ الإمكان، ولم تبقَ في الشي‏ء طاقة على درجة جديدة، انتهى عمر الحركة.
هذا هو معنى خروج الشي‏ء من القوّة إلى الفعل تدريجاً، أو تشابك القوّة