کتابخانه
166

فهنا صور لابدّ من ذكر كلٍّ منها، وملاحظة أنّ الاستصحاب فيها هل يكون من استصحاب العدم الأزليّ، أمْ لا؟
الصورة الاولى: أن يكون موضوع الحرمة الميتة بما هي أمر وجوديّ مسبّب عن الأسباب غير الشرعية للموت، وبناءً عليه لايجري استصحاب عدم التذكية بوجهٍ أصلًا؛ لأنّه لا يثبت عنوان الموت إلّاعلى القول بالاصول المثبتة؛ لأنّ هذا الموضوع الوجوديّ ملازم عقلًا لعدم التذكية.
الصورة الثانية: أن يكون موضوع الحرمة عنواناً عدمياً هو عدم الموت بسببٍ شرعيٍّ بنحو العدم المحمولي، وقد اضيف إلى ذات الحيوان لا الحيوان الميت، فيكون موضوع الحرمة مركّباً من زهاق روح الحيوان وعدم تذكيته.
وهذا يعني: أنّ القيدين عرضيّان في نسبتهما إلى ذات الحيوان دون أخذ تقييدٍ بينهما، وبناءً على هذا يجري استصحاب عدم التذكية لإثبات الحرمة، حتّى لو أنكرنا الاستصحاب في الأعدام الأزلية؛ لأنّ عدم تذكية الذابح للحيوان، له حالة سابقة للموضوع الذي هو ذات الحيوان بحسب الفرض، فيجري استصحابه، ويضمُّ إلى القيد الآخر للموضوع المحرز بالوجدان- وهو زهاق روحه- ويلتئم به الموضوع المركّب.
الصورة الثالثة: نفس الصورة، مع افتراض العدم نعتيّاً لا محموليّاً. والحكم فيها كما في الصورة السابقة؛ لأنّ العدم النعتيّ أيضاً له حالة سابقة حال حياة الحيوان، فيحرز بالاستصحاب، ويضمّ اليه الجزء الآخر المحرز بالوجدان فيثبت المركّب.
الصورة الرابعة: أن يكون عدم التذكية مضافاً إلى الحيوان الزاهق روحه، لا إلى نفس الحيوان مع كونه بنحو العدم المحمولي، وهذا معناه: أنّ قيدَي زهاق الروح وعدم التذكية طوليّان لا عَرْضيان، وبناءً عليه يجري أيضاً استصحاب‏

165

مسألة (6): ما يؤخذ من يد المسلم من اللحم أو الشحم أو الجلد محكوم بالطهارة، وإن لم يعلم تذكيته (1).

————–

الكلام في تحقيق أنّ موضوع الحكم بالحرمة أو النجاسة هل هو عنوان الميتة بهذا المفهوم العامّ، أو ما لايكون مذكّى‏؟

وقد اخترنا في موضعٍ آخر[1] من هذا الشرح التفصيل بين الحرمة والنجاسة. فالاولى موضوعها أمر عدمي ولهذا يمكن إثباته بالاستصحاب، والثانية موضوعها عنوان وجوديّ فيتعذر إثباتها باستصحاب عدم التذكية، فلاحظ.

[أماريّة يد المسلم على التذكية:]

(1) يقع الكلام أوّلًا: في استصحاب عدم التذكية، ومقدار مايمكن أن يثبت به من آثار.

وثانياً: في الأمارات الخاصّة الحاكمة عليه.

أمّا تحقيق حال استصحاب عدم التذكية فمحصّل ما ينبغي إيراده في المقام، أ نّه: تارةً يراد إثبات الحرمة تكليفاً أو وضعاً في الصلاة بالاستصحاب المذكور. واخرى يراد إثبات النجاسة. فالكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في إثبات الحرمة بالاستصحاب المذكور، وهو موقوف على ملاحظة موضوع الحكم بالحرمة، وهل هو عنوان وجوديّ أو عدميّ بنحو العدم النعتيّ أو المحمولي؟

 

[1] راجع الصفحة 183 من هذا الجزء

164

مسألة (4): إذا شكّ في شي‏ءٍ أ نّه من أجزاء الحيوان أم لا فهو محكوم بالطهارة (1). وكذا إذا علم أ نّه من الحيوان لكن شكّ في أ نّه ممّا له دم سائل أوْ لا (2).

مسألة (5): المراد من الميتة أعمّ ممّا مات حَتْفَ أنفه، أو قُتِلَ، أو ذُبح على غير الوجه الشرعي (3).

————–

ميتة ذلك الفرد؛ لأنّ العبرة بالنوع، فيشكل جريان الاستصحاب؛ لأنّه إن اريد إجراؤه في واقع النوع الذي ينتسب إليه هذا الحيوان المردّد فهو من استصحاب الفرد المردّد؛ لأنّ واقعه إمّا الحيّة التي يعلم بعدم النفس السائلة لها، أو الفارة التي يعلم بثبوت النفس السائلة لها.

وإن اريد إجراؤه في هذا الشخص الخارجيّ من الحيوان فهو لا أثر له؛ لأنّ المفروض اخذ صفة السيلان للنوع لا للفرد، فيرجع إلى أصالة الطهارة.

***

(1) لاستصحاب عدم كونه من الحيوان، ولأصالة الطهارة.

(2) لاستصحاب عدم كونه من الحيوان ذي النفس السائلة، ولأصالة الطهارة.

(3) كما هو المتّفق عليه فتوىً وارتكازاً، فما مات بقتلٍ أو ذبحٍ غير شرعيٍّ يحكم عليه بالحرمة والنجاسة. ويشهد لذلك: ما دلّ من الأخبار على النهي عن أكل ما تقطعه الحبال، معلّلًا بأ نّه ميتة[1]، بعناية عدم وقوع التذكية عليه.

وقد يستشهد لذلك برواياتٍ اخرى‏ أيضاً، وهذا المقدار لاكلام فيه، وإنّما

 

[1] راجع وسائل الشيعة 23: 376، الباب 24 من أبواب الصيد

163

العدم الأزليّ لهذا العنوان وأصالة الطهارة.
وإن التزم بوجود العموم في دليل نجاسة الميتة فلابدّ من ملاحظة ما هو الخارج بالتخصيص. فإن كان الخارج موضوعاً مركّباً من ميتة حيوانٍ وعدم كونه ذا نفسٍ سائلة أمكن إحراز عنوان الخارج باستصحاب العدم الأزلي؛ لكونه ذا نفسٍ سائلة.
وإن كان الخارج موضوعاً مقيّداً- وهوميتة الحيوان المتّصف بعدم سيلان الدم- فهذا يعني أنّ عدم السيلان المأخوذ في العنوان الخارج لوحظ بنحو العدم النعتي فلا يمكن إثباته باستصحاب العدم الأزلي، بل يمكن نفيه بهذا الاستصحاب بنحوٍ يثبت موضوع العامّ، فيحكم بالنجاسة. هذه هي تقادير المسألة.
وأمّا تشخيص الواقع منها فمن ناحية وجود العموم في دليل نجاسة الميتة وعدمه تقدّم الحال في ذلك.
ومن ناحية تشخيص العنوان الخارج بالتخصيص قد يقال: إنّ المخصِّص هو مثل قوله: «كلّ ما ليس له دم فلا بأس به» وظاهره أخذ العدم بنحو العدم النعتي.
ويرد عليه- مضافاً إلى إمكان منع هذا الظهور-: أنّ دليل التخصيص لا ينحصر بذلك بعد أن صحّ سند رواية حفص، وهي تحصر النجاسة بعنوانٍ وجودي، فتعطي هذا العنوان لنفس العمومات، ويكون المستصحب عدمه الأزلي.
وأمّا الصورة الثانية فتوضيح الحال فيها: أنّ موضوع الحكم بالنجاسة: إن كان هو ميتة الحيوان الذي له بشخصه نفس سائلة فاستصحاب العدم الأزليّ يجري لنفي موضوع النجاسة، كما هو الحال في الصورة السابقة.
وإن كان هو ميتة الحيوان الذي يكون نوعه ذا نفسٍ سائلة بحيث لو اتّفق وجود النفس السائلة في فردٍ من السَمَك- مثلًا- بنحو الشذوذ لم يستوجب نجاسة

162

خاصٍّ على ذلك، فإنّه لم يرد ما يدلّ على نجاستها، بل بدعوى كونهما ممّا له نفس سائلة.

والجدير بالبحث الفقهيّ أن نلاحظ حكم الشكّ في كون حيوانٍ ممّا له نفس سائلة أو لا؟

فنقول: قد يشكّ في أنّ الحيوان ذو نفسٍ سائلة بنحو الشبهة المفهومية، بأن يشكّ في صدق العنوان المزبور على درجةٍ معيّنةٍ من الدم في الحيوان.

وقد يشكّ فيه بنحو الشبهة المصداقية، بأن لا يعلم مقدار الدم وسيلانه.

أمّا الفرض الأوّل فحكمه التمسّك بعموم نجاسة الميتة على فرض وجوده، بناءً على ما هو المقرّر في محلّه‏[1] من التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهومية لمخصِّصه المنفصل.

وأمّا الفرض الثاني: فتارةً يفرض أنّ الحيوان المشكوك متعيّن نوعاً، كميتة الحيّة التي يشكّ بنحو الشبهة الموضوعية في سيلان دمها.

واخرى يفرض عدم تعيّن نوعه، كميتةٍ مردّدةٍ بين الحيّة والفأرة. فهنا صورتان:

أمّا الصورة الاولى: فإن بني على عدم جريان الاستصحاب في العدم الأزليّ جرت في المقام أصالة الطهارة، حتّى إذا افترض وجود العموم في دليل نجاسة الميتة؛ لوضوح عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

وإن بني على جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية: فإمّا أن يلتزم بوجود العموم في دليل نجاسة الميتة، وإمّا أن يلتزم بعدمه.

فإن التزم بعدمه كان المتيقّن نجاسته هو عنوان ما له دم، فيجري استصحاب‏

 

[1] راجع بحوث في علم الاصول 3: 298 و 302

161

وكذا الحيّة والتمساح وإن قيل بكونهما ذا نفس؛ لعدم معلومية ذلك، مع أ نّه إذا كان بعض الحيّات كذلك لايلزم الاجتناب عن المشكوك كونه كذلك (1).

————–

إذ لم يفرض في موضوعها ملاقاة الماء ونحوه لميتة الوزغ والعقرب، بل لنفسها، فيكون ذلك أجنبياً عن محلّ الكلام، إذ لا يرجع إلى تخصيصٍ في دليل طهارة ميتة ما لا نفس له. وسوف يأتي‏[1] تفصيل الكلام في احتمال النجاسة الذاتية لهذه الحيوانات في آخر بحث النجاسات.

فإن قيل: إنّ ما دلّ على نجاسة الوزغ أو العقرب- مثلًا- أو انفعال البئر به وإن لم يؤخذ في موضوعه فرض الموت ولكن إذا ضُمَّ إلى ذلك ما دلّ على طهارته في حال حياته تعيّن تقييد دليل النجاسة بما بعد الموت، فيكون تخصيصاً في دليل طهارة الميتة.

قلنا: إنّ هذا ليس تقييداً عرفياً لظهور تلك الروايات في أنّ ملاك الحزازة نفس سقوط الوزغ أو العقرب في الماء، والتقييد يعني إلغاء هذا الملاك رأساً، وجعل هذا السقوط مقدمة لأمرٍ مطويّ- وهو موت الحيوان في الماء- وافتراض هذا الأمر المطويّ ملاكاً للحزازة. ومن الواضح أنّ الحمل على التنزّه أوْلى من هذا التأويل عرفاً.

***

(1) ذهب بعض‏[2] إلى نجاسة ميتة الحيّة والتمساح؛ لا باعتبار ورود دليل‏

 

[1] في الجزء الرابع: 59 و 61

[2] منتهى المطلب 1: 96 و 169

160

كالوزغ والعقرب والخنفساء والسمك (1).

————–

المفهوم، وغاية ما يوهم كونه مقتضياً للمفهوم استظهار سياق التحديد منها. ومن الواضح أ نّه يكفي لإشباع الحاجة إلى التحديد أن يذكر ما يكون جامعاً محدّداً للأمثلة التي سأل عنها السائل، والتي كلّها ممّا لا نفس له أصلًا.

وثانياً: لو فرض تمامية المفهوم فيها فلا محيص عن تقديم رواية حفص على إطلاق هذا المفهوم. وذلك لورود قيد السيلان في رواية حفص، بحيث يكون الالتزام بإطلاق المفهوم- المقتضي لنجاسة دم ما له دم غير سائل- إلغاءً لخصوصيّة القيد المذكور المأخوذ في رواية حفص، وهذا ليس تقييداً، وإنّما هو رفع لليد عن موضوعية قيدٍ مأخوذٍ في الحكم.

وهناك روايات اخرى وردت في موارد خاصّةٍ من ميتة بعض الحيوانات التي لا نفس سائلة لها، وهي تدلّ على الطهارة، إلّاأنّ الاستدلال بها على القضية الكلّية بحاجةٍ إلى ضمّ نكاتٍ ومناسباتٍ عرفيةٍ تقتضي إلغاء خصوصية تلك الموارد. وسوف يأتي التعرّض لجملةٍ منها، إلّاأنّ في رواية حفص المطلقة والتامّة سنداً ودلالة غنىً وكفاية.

***

(1) تمسّكاً بإطلاق ما دلّ على طهارة ميتة ما ليس له نفس سائلة، بعد فرض طهارة هذه الحيوانات في أنفسها وعدم نجاستها الذاتية بقطع النظر عن الموت.

وقد يدّعى‏ نجاسة مثل الوزغ والعقرب تمسّكاً ببعض الروايات‏[1]، إلّاأ نّها لو تمّت دلالتها فهي ناظرة إلى النجاسة الذاتية، لا إلى حدوث النجاسة بالموت،

 

[1] وسائل الشيعة 1: 240، الباب 9 من أبواب الأسآر، الحديث 4 و 5 و 6

159

الواقع بعد الضعف في سلسلة السند، وأحدها صحيح قد اشتمل بدلًا عن أحمد بن محمد على الصدوق، فتصحّ الرواية.

فإن قيل: كيف نثبت أنّ الشيخ ينقل هذه الرواية بذلك الطريق الصحيح إلى محمد بن أحمد بن يحيى‏ ما دام قد صرحّ في كتابيه بطريقٍ معيّنٍ إليه في مقام نقل تلك الرواية؟

قلنا: إنّ الظاهر من عبارة الفهرست وحدة المنقول بالطرق الثلاثة، وحيث إنّ الطريق المصرّح به في الاستبصار هو أحد الطرق الثلاثة المذكورة في الفهرست ثبت أنّ رواية محمد بن أحمد بن يحيى‏ لخبر حفص واصلة إلى الشيخ بالطرق الثلاثة جميعاً. وهذا هو المقدار الذي نقبله من نظرية التعويض.

ومن جملة الروايات: موثَّقة عمّار: سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه؟ فقال عليه السلام: «كلّ ما ليس له دم فلا بأس»[1].

وقريب من مضمونها رواية أبي بصير: «كلّ شي‏ءٍ وقع في البئر ليس له دم مثل العقرب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس»[2].

ودلالتها على طهارة ميتة ما لا دم له أوضح من سابقتها؛ لصراحة نظرها إلى محذور الميتة ونجاستها.

غير أ نّه ربّما يقال بدلالتها- بمقتضى إطلاق المفهوم- على نجاسة ميتة ما له نفس غير سائلة، كالسمك- مثلًا- فتقع طرفاً للمعارضة مع رواية حفص المتقدّمة بنحو العموم من وجه، وبعد التساقط يرجع في ما له نفس غير سائلةٍ إلى عموم نجاسة الميتة باعتباره مرجعاً فوقانياً.

وفيه أوّلًا: أنّ الجملة التي استعملها الإمام عليه السلام غير مشتملةٍ على أدوات‏

 

[1] وسائل الشيعة 3: 464، الباب 35 من أبواب النجاسات، الحديث 1

[2] وسائل الشيعة 1: 185، الباب 17 من أبواب الماء المطلق، الحديث 11

158

ودلالتها على طهارة ميتة ما لا نفس له واضحة، فإنّها بقرينة التفصيل بين ما له نفس وما ليس له نفس تكون ناظرةً إلى نفي النجاسة ممّا ليس له نفس، لا إلى اعتصام مطلق الماء، وإلّا لم يكن فرق بين ما ليس له نفس وغيره.

وهذه النجاسة المنفيّة ليس المراد بها النجاسة الذاتية للحيوان؛ لأنّ وضوح أنّ الحيوان الحيّ ليس نجساً ولا منجّساً حتّى في ما له نفس يصرف ظهور الرواية عن ذلك. وليس المراد بها نجاسة ما قد ينضمّ إلى الحيوان من فضلاته؛ لأنّ إضافة الإفساد المنفيّ إلى نفس الحيوان قرينة على كون المنظور بدن الحيوان، أو كونه على الأقلّ هو القدر المتيقّن على نحوٍ لا يمكن حمل الرواية على غيره، فيتعيّن اتّجاه نظر الرواية نحو نجاسة الحيوان باعتبار موته.

ولكنّ في الرواية إشكالًا من ناحية السند؛ لأنّ الشيخ ينقلها في التهذيب:

عن المفيد، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد بن يحيى‏، عن أحمد بن محمد بن عيسى‏، عن محمد بن عيسى، عن حفص‏[1].

وأحمد بن محمد الذي يروي عنه المفيد غير ثابت التوثيق.

وينقلها الشيخ في الاستبصار[2]: عن الحسين بن عبيداللَّه، عن أحمد بن محمد بن يحيى‏، عن محمد بن يحيى‏، عن محمد بن أحمد بن يحيى‏ … إلى آخره.

وقد وقع فيه أحمد بن محمد أيضاً.

ولكنّ التحقيق: إمكان دفع هذا الإشكال السَنَدي، باعتبار أنّ الشيخ له ثلاث طرقٍ في الفهرست‏[3] إلى جميع كتب وروايات محمد بن أحمد بن يحيى‏،

 

[1] تهذيب الأحكام 1: 231، الحديث 669

[2] الاستبصار 1: 26، الحديث 67

[3] الفهرست: 221، الرقم 622

dot-icondot-icondot-icondot-icondot-icon