کتابخانه
211

ليست أكثر من تعبير عن شي‏ء ذاتي، فلا تصبح (الحقيقة) حقيقة إلّامن ناحية اسمية فقط. وبذلك تفقد (الحقيقة) في المفهوم النسبي الذاتي صفتها كموضوع للنزاع والصراع الفلسفي بين اتّجاهات اليقين، والشكّ والإنكار في الفلسفة.
فالنسبية الذاتية مذهب من مذاهب الشكّ يتبرقع بستار من الحقيقة.
وهناك تفسير فلسفي آخر (للحقيقة)، وهو الذي يقدّمه لنا (وليم جيمس) في مذهبه الجديد في المعرفة الإنسانية: (البراجماتزم) أو (مذهب الذرائع). وليس هذا التفسير بأدنى إلى الواقعية أو أبعد عن فلسفات الشكّ والإنكار من التفسير السابق الذي حاولته النسبية الذاتية.
ويتلخّص مذهب (البراجماتزم) في تقديم مقياس جديد لوزن الأفكار والفصل فيها بين الحقّ والباطل، وهو: مقدرة الفكرة المعيّنة على إنجاز أغراض الإنسان في حياته العملية. فإن تضاربت الآراء وتعارضت، كان أحقّها وأصدقها هو أنفعها وأجداها، أي: ذلك الذي تنهض التجربة العملية دليلًا على فائدته.
والأفكار التي لا تحقّق قيمة عملية ولا يوجد لها آثار نافعة فيما تصادف من تجارب الحياة، فليست من الحقيقة بشي‏ء، بل يجب اعتبارها ألفاظاً جوفاء لا تحمل من المعنى شيئاً.
فمردّ الحقائق جميعاً في هذا المذهب إلى حقيقة عليا في الوجود، وهي الاحتفاظ بالبقاء أوّلًا، ثمّ الارتفاع بالحياة نحو الكمال ثانياً. فكلّ فكرة يمكن استعمالها كأداة للوصول إلى تلك الحقيقة العليا فهي حقّ صريح وحقيقة يجب تصديقها، وكلّ فكرة لا تصنع شيئاً في هذا المضمار فلا يصحّ الأخذ بها.
وعلى هذا الأساس عرّف (برغسون) الحقيقة: بأ نّها اختراع شي‏ء جديد، وليست اكتشافاً لشي‏ء سبق وجوده. وعرّفها (شلر) بأ نّها ما تخدم الإنسان وحده. وحدّد (ديوي) وظيفة الفكرة قائلًا: إنّ الفكرة أداة لترقية الحياة، وليست‏

210

وهل تحتوي كلّ حقيقة على نقيضها، وتنمو بهذا التناقض الداخلي؟
هذا ما نريد أن نتبيّنه فعلًا.

أ- تطوّر الحقيقة وحركتها:

يجب قبل كلّ شي‏ء أن نعرف ماذا يراد بالحقيقة القائمة في الفكر الإنساني التي آمنت الماركسية بنموّها وتكاملها؟
إنّ الفلسفة الواقعية تؤمن بواقع خارج حدود الشعور والذهن، وتعتبر التفكير- أيّ تفكير كان- محاولة لعكس ذلك الواقع وإدراكه. وعلى هذا، فالحقيقة هي الفكرة المطابقة لذلك الواقع والمماثلة له. والخطأ يتمثّل في الفكرة أو الرأي أو العقيدة التي لا تطابق الواقع ولا تماثله. فالمقياس الفاصل بين الحقّ والباطل، بين الحقيقة والخطأ هو: مطابقة الفكرة للواقع.
والحقيقة بهذا المفهوم الواقعي هي موضوع العراك الفلسفي العنيف بين الواقعيين من ناحية، والتصوّريين والسفسطائيين من ناحية اخرى. فالواقعيون يؤكّدون على إمكانها، والتصوّريون أو السفسطائيون ينفونها أو يتردّدون في القدرة البشرية على الظفر بها.
غير أنّ لفظ (الحقيقة) قد استحدثت له عدّة معانٍ اخرى، تختلف كلّ الاختلاف عن مفهومها الواقعي الآنف الذكر، وابتعد بذلك عن الميدان الأساسي للصراع بين فلسفة اليقين، وفلسفات الشكّ والإنكار.
فمن تلك التطويرات الحديثة التي طرأت على الحقيقة، تطوير النسبية الذاتية الذي شاء أن يضع للفظ (الحقيقة) مفهوماً جديداً. فاعتبر (الحقيقة) عبارة عن الإدراك الذي يتّفق مع طبيعة الجهاز العصبي وشروط الإدراك فيه. وقد مرّ حديثنا عن النسبيّة الذاتية، وقلنا: إنّ إعطاء (الحقيقة) هذا المفهوم يعني: أ نّها

209

– لا). إنّه يعلم الإجابة بكلمة واحدة وبصورة قاطعة على السؤال: هل الظاهرة تلك موجودة أم لا؟ والإجابة- مثلًا- ب (نعم) على السؤال: هل الشمس موجودة؟ وب (لا) على السؤال: هل الدائرة المربّعة موجودة؟ في المنطق الشكلي يقف الإنسان عند حدّ إجابات بسيطة جدّاً، نعم أو لا، أي:

عند حدّ تمييز نهائي بين الحقيقة والخطأ. لهذا السبب تواجه الحقيقة باعتبارها شيئاً معطىً ساكناً ثابتاً نهائياً، ومتعارضاً تعارضاً مطلقاً مع الخطأ»[1].

تخلص معنا من هذه النصوص الماركسية آراء ثلاثة، يرتبط بعضها ببعض كلّ الارتباط:

الأوّل- أنّ الحقيقة في نموّ وتطوّر، يعكس نموّ الواقع وتطوّره.

الثاني- أنّ الحقيقة والخطأ يمكن أن يجتمعا، فتكون الفكرة الواحدة خطأ وحقيقة، وليس هناك تعارض مطلق بين الخطأ والحقيقة، كما يؤمن به المنطق الشكلي، على حدّ تعبير (كيدروف).

الثالث- أنّ أيّ حكم مهما بدت الحقيقة فيه واضحة فهو يحتوي على تناقض خاصّ، وبالتالي على جانب من الخطأ. وهذا التناقض هو الذي يجعل المعرفة والحقيقة تنمو وتتكامل.

 

[نقد الحركة الديالكتيكيّة في الفكر:]

 

فهل الحقيقة القائمة في فكر الإنسان تتطوّر وتتكامل حقيقة؟

وهل يمكن للحقيقة أن تجتمع مع الخطأ؟

 

[1] المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي: 13- 14

208

وقال أيضاً:

«من المهمّ في نظرية المعرفة- كما في جميع حقول العلم الاخرى- أن يكون التفكير دائماً ديالكتيكياً، أي: أن لا يفرض- مطلقاً- كون وعينا ثابتاً لا يتطوّر»[1].

وقال كيدروف:

«أمّا المنطق الديالكتي فهو لا يواجه هذا الحكم كأ نّه شي‏ء مكتمل، بل بوصفه تعبيراً عن فكرة قادرة على أن تنمو وأن تتحرّك. وأيّاً ما كانت بساطة حكمٍ ما، ومهما بدا عادياً هذا الحكم، فهو يحتوي على بذور أو عناصر تناقضات ديالكتية، تتحرّك وتنمو داخل نطاقها المعرفة البشرية كلّها»[2].

وأشار كيدروف إلى كلمة يحدّد فيها لينين اسلوب المنطق الديالكتي في التفكير؛ إذ يقول:

«يقضي المنطق الديالكتي أن يؤخذ الشي‏ء في تطوّره، في نمائه، في تغيّره».

وعقّب على ذلك بقوله:

«وخلافاً للمنطق الديالكتي، يعمد المنطق الشكلي إلى حلّ مسألة الحقيقة حلًا أوّلياً إلى أبعد حدّ بواسطة صيغة (نعم‏

 

[1] المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي: 11

[2] المصدر السابق: 20- 21

207

انعكاس العالم الموضوعي في ضمير الإنسان الشي‏ء المنعكس، وأن لا يتضمّن شيئاً غريباً عنه: شيئاً جي‏ء به على نحو ذاتي. إنّ التفسير الذاتي وفقاً لوجهة النظر النسبية المرونة المفاهيم، هو إضافة غريبة تماماً، كالمبالغة الغيبية الذاتية في تجريدات المنطق الشكلي»[1].

هذه النصوص تدلّ على المحاولة التي اتّخذتها الماركسية لترفع على أساسها يقينها الفلسفي. وهي محاولة تطبيق قانون الديالكتيك على الحقيقة.

فالإنسان وإن لم تكن لديه حقيقة مطلقة في مجموع أفكاره، غير أنّ سلبية إمكان الحقيقة المطلقة عن أفكاره ليس لأجل أ نّها كومة من أخطاء مطلقة تجعل المعرفة الصحيحة مستحيلة على الإنسان نهائياً، بل لأنّ الحقائق التي يملكها الفكر الإنساني حقائق تطوّرية، تنمو وتتكامل على طبق قوانين الديالكتيك، فهي لذلك حقائق نسبية وفي حركة مستمرّة.

قال لينين:

«يجب أن لا يتصوّر الفكر (يعني الإنسان) الحقيقة في شكل مجرّد مشهد (صورة شاحبة باهتة) بدون حركة. إنّ المعرفة هي الاقتراب اللامتناهي الأبدي للفكر نحو الشي‏ء.

يجب فهم انعكاس الطبيعة في فكر الإنسان ليس كشي‏ء جامد مجرّد، بدون حركة، بدون تناقضات، وإنّما كعملية تطوّر أبدية للحركة لولادة التناقضات وحلّ هذه التناقضات»[2].

 

[1] المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي: 51

[2] المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي: 10. نقلًا عن الدفاتر الفلسفيّة: 167- 168

206

قال لينين:

«إنّ المرونة التامّة الشاملة للمفاهيم وهي: المرونة التي تذهب إلى حدّ تماثل الأضداد، ذلك هو جوهر القضية.

إنّ هذه المرونة إذا استخدمت على نحو ذاتي تفضي إلى الانتقائية والسفسطة. والمرونة المستخدمة موضوعياً يعني بكونها تعكس جميع جوانب حركة التطوّر المادّية ووحدته، إنّما هي الديالكتيك، وهي الانعكاس الصحيح للتطوّر الأبدي للعالم»[1].

وقال أيضاً:

«نستطيع بانطلاقنا من المذهب النسبي البحت تبرير كلّ نوع من أنواع السفسطة»[2].

وقال كيدروف:

«ولكن قد توجد ثمّة نزعة ذاتية، ليس فقط حينما نعمل على أساس المنطق الشكلي بمقولاته الساكنة الجامدة، وإنّما- أيضاً- حينما نعمل بواسطة مقولات مرنة متحوّلة. ففي الحالة الاولى نصل إلى الغيبية، وفي الثانية نصل إلى المذهب النسبي والسفسطائية والانتقائية»[3].

وقال أيضاً:

«يقتضي المنطق الديالكتي الماركسي أن يطابق‏

 

[1] المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي: 50- 51. نقلًا عن الدفاتر الفلسفيّة: 84

[2] المرجع ذاته: 51. نقلًا عن الدفاتر الفلسفيّة: 328

[3] المرجع ذاته: 50

205

وواضح أنّ النسبة في الحسّ لا تعني أنّ أشياءَ عديدة ومتغايرة تشترك في رمز حسّي واحد، ليسقط هذا الرمز عن القيمة نهائياً، ويعجز عن تعيين الاتّجاه الذي يحفظ لنا حياتنا ويحدّد موقفنا من الأشياء الخارجية، بل النظرية النسبية الفيزيولوجية تقوم على أساس أنّ كلّ لون من الإحساس فهو رمز يختصّ بواقع موضوعي معيّن، لا يمكن أن يرمز إليه بلون آخر من ألوان الحسّ، ويتاح- حينئذٍ- لنا أن نحدّد موقفنا من الأشياء على ضوء تلك الرموز، ونردّ عليها بالفعّالية التي تنسجم مع الرمز وتتطلّبها طبيعة الحياة تجاهه.

الحركة الديالكتيكية في الفكر:

وتناولت الماركسية بعد ذلك المذهب النسبي في الحقيقة، فاعتبرته نوعاً من السفسطة؛ لأنّ النسبية فيه تعني: تغيّر الحقائق من ناحية ذاتية، وقرّرت النسبية بشكل جديد، أوضحت فيه تغيّر الحقائق طبقاً لقوانين التطوّر والتغيّر في المادّة الخارجية.
فليست في الفكر الإنساني حقائق مطلقة، وإنّما الحقائق التي ندركها نسبية دائماً، وما يكون حقيقة في وقت يكون بنفسه خطأ في وقت آخر. وهذا ما تتّفق عليه النسبية والماركسية معاً. وتزيد الماركسية بالقول: إنّ هذه النسبية وهذه التغيّرات والتطوّرات في الحقيقة ليست إلّاانعكاساً لتغيّرات الواقع، وتطوّرات المادّة التي نتمثّلها في حقائقنا الفكرية. فالنسبية في الحقيقة بنفسها نسبية موضوعية، وليست نسبية ذاتية ناشئة من جانب الذات المفكّرة، ولذلك فهي لا تعني عدم وجود معرفة حقيقية للإنسان، بل الحقيقة النسبية المتطوّرة التي تعكس الطبيعة في تطوّرها، هي المعرفة الحقيقية في المنطق الديالكتي.

204

والظواهر الطبيعية، فلماذا يكون الفكر الماركسي معرفة صحيحة للطبيعة دون غيره من هذه الامور مع أ نّها جميعاً نتاجات طبيعية تعكس قوانين الطبيعة؟!

وبهذا نعرف أنّ مجرّد اعتبار الفكر ظاهرة للطبيعة ونتاجاً منها، لا يكفي لأن يكون معرفة حقيقية للطبيعة، بل لا يضع بين الفكرة وموضوعها إلّاعلاقة السببية الثابتة بين كلّ نتيجة وسببها الطبيعي. وإنّما تكون الفكرة معرفة حقيقة إذا آمنا فيها بخاصّة الكشف والتصوير، التي تمتاز بها على كلّ شي‏ء آخر.

وأمّا الدليل البيولوجي على مطابقة الإدراك أو الإحساس للواقع الموضوعي، فهو ما يعرضه لنا النصّ التالي:

«لا تستطيع المعرفة أن تكون وهي في مستوى الإحساس نافعة بيولوجياً في حفظ الحياة، إلّاإذا كانت تعكس الواقع الموضوعي»[1].

«فإذا كان صحيحاً أنّ الإحساس ليس إلّارمزاً دون أ يّما شبه بالشي‏ء، وإذا كان يمكن بالتالي تطابق أشياء عديدة متغايرة، أو أشياء وهمية ومثلها تماماً أشياء واقعية، عندئذٍ يكون التعوّد البيولوجي على البيئة مستحيلًا؛ إذ افترضنا أنّ الحواسّ لا تتيح لنا تعيين اتّجاهنا بيقين وسط الأشياء، والردّ عليها بفعّالية، بيد أنّ كلّ النشاط العملي البيولوجي للإنسان والحيوان يدلّنا على درجات اكتمال هذا التعوّد»[2].

 

[1] ما هي المادّية؟: 62

[2] نفس المصدر: 35- 36

203

كانا في زمان يتعارضان مع الطبيعة ومع الكائن، عندئذٍ يؤدّي ذلك بنا حتماً إلى أن نجد- رائعاً جدّاً- كون وعينا للطبيعة وتفكير الكائن وقوانين الفكر متطابقة إلى أبعد حد.

ولكن إذا تساءلنا: ما هو الفكر؟ وما هو الوعي؟ ومن أين يأتيان؟ وجدنا أنّ الإنسان هو نفسه نتاج للطبيعة، نما في بيئة ومع نموّ هذه البيئة، وعندئذٍ يصبح في غنىً عن البيان:

كيف أنّ منتوجات الذهن البشري التي هي- أيضاً- عند آخر تحليل منتوجات للطبيعة ليست في تناقض، وإنّما في توافق مع سائر الطبيعة المترابطة»[1].

إنّ الفكر في المفهوم الماركسي جزء من الطبيعة أو نتاج أعلى لها.

ولنفترض أنّ هذا صحيح- وليس هو بصحيح- فهل يكفي ذلك لأجل أن نبرهن على إمكان معرفة الطبيعة بصورة كاملة؟!

صحيح أنّ الفكر إذا كان جزءاً من الطبيعة ونتاجاً لها فهو يمثّل بطبيعة الحال قوانينها، ولكن ليس معنى هذا: أنّ الفكر بهذا الاعتبار يصبح معرفة صحيحة للطبيعة وقوانينها.

أوَ ليس الفكر الميتافيزيقي أو المثالي فكراً، وبالتالي جزءاً من الطبيعة ونتاجاً لها- في الزعم المادّي؟!- أوَ ليست جميع محتويات العمليات الفيزيولوجية ظواهر طبيعية ونتاجاً للطبيعة؟!

فقوانين الطبيعة- إذن- تتمثّل في تفكير المادّي الجدلي وتجري عليه، وفي التفكير المثالي والميتافيزيقي على السواء، كما تتمثّل في جميع العمليات‏

 

[1] ما هي المادّية؟: 46- 47