کتابخانه
293

وقال أنجلز:

«رأينا فيما سبق بأنّ قوام الحياة هو: أنّ الجسم الحيّ في كلّ لحظة هو هو نفسه، وفي عين تلك اللحظة هو ليس إيّاه، هو شي‏ء آخر سواه. فالحياة- إذن- هي تناقض مستحكم في الكائنات والعمليات ذاتها»[1].

لا شكّ في أنّ الكائن الحيّ يحتوي على عمليتين- حياة وموت- متجدّدتين، وما دامت هاتان العمليتان تعملان عملهما، فالحياة قائمة. ولكن ليس في ذلك شي‏ء من التناقض؛ لأنّنا إذا حلّلنا هاتين العمليتين اللتين نضيفهما بادئ الأمر إلى كائن حيّ واحد، نعرف أنّ عملية الموت وعملية الحياة لا تتّفقان في موضوع واحد. فالكائن الحيّ يستقبل في كلّ دور خلايا جديدة، ويودّع خلايا بالية. فالموت والحياة يتقاسمان الخلايا، والخلية التي تفنى في لحظة، غير الخلية التي توجد وتحيا في تلك اللحظة. وهكذا يبقى الكائن الحيّ الكبير متماسكاً؛ لأنّ عملية الحياة تعوّضه عن الخلايا التي ينسفها الموت بخلايا جديدة، فتستمرّ الحياة حتّى تنتهي إمكاناته، وتنطفئ شعلة الحياة منه. وإنّما يوجد التناقض لو أنّ الموت والحياة استوعبا في لحظة خاصّة جميع خلايا الكائن الحيّ. وهذا ما لا نعرفه من طبيعة الحياة والأحياء؛ فإنّ الكائن الحيّ لا يحمل في طيّاته إلّا إمكان الموت، وإمكان الموت لا يناقض الحياة، وإنّما يناقضها الموت بالفعل.

3- التناقض في مقدرة الإنسان على المعرفة، قال أنجلز يعرض مبدأ التناقض في الديالكتيك:

 

[1] ضد دوهرنك: 203

292

دجاجة. فقد اجتمع في صميم البيضة إمكان الدجاجة وصفة البيضة، لا صفة البيضة وصفة الدجاجة معاً. بل قد عرفنا أكثر من ذلك، عرفنا أنّ الحركة التطوّرية لا يمكن فهمها إلّاعلى ضوء مبدأ عدم التناقض؛ فإنّ المتناقضات لو كان من الممكن أن تجتمع حقّاً في صميم الشي‏ء، لما حصل تغيّر، ولما تبدّل الشي‏ء من حالة إلى حالة، ولما وجد بالتالي تغيّر وتطوّر.

وإذا كانت الماركسية تريد أن تدلّنا على تناقض في عملية الحركة، يتنافى مع مبدأ عدم التناقض حقّاً، فلتقدّم مثالًا للتطوّر توجد فيه حركة ولا توجد، أي:

يصحّ فيه النفي والإثبات على التطوّر معاً. فهل يجوز في مفهومها بعد أن أسقطت مبدأ عدم التناقض، أن يتطوّر الشي‏ء ولا يتطوّر في وقت معاً؟! فإن كان هذا جائزاً فلتدلّنا على شاهد له في الطبيعة والوجود، وإن لم يجز فليس ذلك إلّا اعترافاً بمبدأ عدم التناقض وقواعد المنطق الميتافيزيقي.

2- تناقضات الحياة، أو الجسم الحي. قال هنري لوفافر:

«ورغم ذلك، أفليس من الواضح: أنّ الحياة هي الولادة والنموّ والتطوّر؟ غير أنّ الكائن الحيّ لا يمكن أن ينمو دون أن يتغيّر ويتطوّر، يعني: دون أن يكفّ عن كونه ما كان. وكي يصير رجلًا عليه أن يترك الصبا ويفقده، وكلّ شي‏ء يلازم السكون ينحطّ ويتأخّر … إلى أن يقول: فكلّ كائن حيّ- إذن- يناضل الموت؛ لأنّه يحمل موته في طوية ذاته»[1].

 

[1] كارل ماركس: 60

291

الموقّت، أم بلحظة من الازدهار، فإنّ الكائن أو الشي‏ء غير المتناقض في ذاته، يكون في مرحلة ساكنة موقتاً»[1].

وقال ماو تسي تونغ:

«لقضية عمومية التناقض، أو الوجود المطلق للتناقض، معنىً مزدوج: الأوّل هو: أنّ التناقض قائم في عملية تطوّر كافة الأشياء. والثاني هو: أ نّه في عملية تطوّر كلّ شي‏ء، تقوم حركة أضداد من البداية حتّى النهاية. يقول أنجلز: إنّ الحركة نفسها تناقض»[2].

وهذه النصوص توضّح: أنّ الماركسية تؤمن بوجود تعارض بين قانون التطوّر والتكامل، وقانون عدم التناقض. وتعتقد أنّ التطوّر والتكامل لا يتحقّق إلّا على أساس تناقض مستمرّ. وما دام التطوّر أو الحركة محقّقين في دنيا الطبيعة، فيجب طرح فكرة عدم التناقض، والأخذ بالديالكتيك؛ ليفسّر لنا الحركة بمختلف أشكالها وألوانها.

وقد ألمعنا سابقاً- عند درس حركة التطوّر- إلى أنّ التطوّر والتكامل لا يتنافى مطلقاً مع مبدأ عدم التناقض، وأنّ الفكرة القائلة بوجود التنافي بينهما، تقوم على أساس الخلط بين القوّة والفعل. فالحركة هي في كلّ درجة إثبات بالفعل ونفي بالقوّة. فالكائن الحيّ حينما تتطوّر جرثومته في البيض حتّى تصبح فرخاً، ويصبح الفرخ دجاجة، لا يعني هذا التطوّر أنّ البيضة لم تكن في دورها الأوّل بيضة بالفعل، بل هي بيضة في الواقع، ودجاجة بالقوّة، أي: يمكن أن تصبح‏

 

[1] كارل ماركس: 58

[2] حول التناقض: 13

290

يمكن معاً أنّ الشبيه ينمو بالشبيه، وبجهة اخرى أن يكون ذلك باللاشبيه»[1].

وهكذا يتّضح: أنّ العمليات المشتركة للأضداد الخارجية، ليست كشفاً للديالكتيك، ولا نقضاً للمنطق الميتافيزيقي، ولا شيئاً جديداً في الميدان الفلسفي، وإنّما هي حقيقة مقرّرة بكلّ وضوح في مختلف الفلسفات منذ فجر التأريخ الفلسفي، وليس فيها ما يحقّق أغراض الماركسية الفلسفية التي تستهدف تحقيقها على ضوء الديالكتيك.

وأمّا إذا كانت الماركسية تعني بالتناقض مفهومه الحقيقي الذي يجعل للحركة رصيداً داخلياً، ويرفضه المبدأ الأساسي في منطقنا، فهذا ما لا يمكن لفكر سليم قبوله، ولا تملك الماركسية شاهداً عليه من الطبيعة وظواهر الوجود مطلقاً.

وكلّ ما تعرض لنا الماركسية من تناقضات الطبيعة المزعومة، فهو لا يمتّ إلى الديالكتيك بصلة.

ولنعرض عدّة من تلك الشواهد التي حاولت أن تبرهن بها على منطقها الديالكتيكي؛ لنتبيّن مدى عجز الماركسية وفشلها في الاستدلال على منطقها الخاصّ:

1- تناقضات الحركة. قال هنري لوفافر:

«حين لا يجري شي‏ء فليست ثمّة مناقضة. ومن ناحية مقابلة، حين لا يكون ثمّة مناقضة لا يحدث شي‏ء، ولا يوجَد أيّ شي‏ء، ولا يلاحظ ظهور أيّ نشاط، ولا يظهر شي‏ء جديد. وسواءٌ أكان الأمر يتعلّق بحال من الركود، أم التوازن‏

 

[1] الكون والفساد: 154

289

وهذا النحو من الصراع بين الأضداد الخارجية وعملياتها المشتركة، ليس من مستكشفات المادّية أو الديالكتيك، بل هو أمر واضح يقرّه كلّ منطق وكلّ فيلسوف- سواءٌ كان مادّياً أم كان إلهياً- منذ أبعد عصور الفلسفة المادّية والإلهية وإلى اليوم. ولنأخذ مثلًا على ذلك أرسطو إمام المدرسة الميتافيزيقية في فلسفة اليونان، وإنّما نأخذه بالخصوص لا لأنّه فيلسوف إلهي فحسب، بل لأنّه واضع قواعد المنطق العامّ- الذي يسمّيه الماركسيون بالمنطق الشكلي- ومبادئه واسسه. فهو يؤمن بالصراع بين الأضداد الخارجية، مع إقامته للمنطق على مبدأ عدم التناقض، ولم يخطر على فكره أنّ شخصاً سينبغ بعد مئات السنين فيعتبر ذلك الصراع دليلًا على سقوط هذا المبدأ الضروري. وفيما يلي شي‏ء من نصوص أرسطو في شأن الصراع بين الأضداد الخارجية:

«وعلى جملة من القول، إنّ شيئاً مجانساً يمكن أن يقبل فعلًا من قبل الشي‏ء المجانس؛ والسبب فيه أنّ جميع الأضداد هي في جنس واحد، وأنّ الأضداد تفعل بعضها في بعض، وتقبل بعضها من قبل البعض الآخر»[1].

«فبحسب الصورة قد انضمّ شي‏ء ما لكلّ جزء كيف ما اتّفق، ولكن لا بحسب المادّة، ومع ذلك فإنّ الكلّ صار أعظم؛ لأنّ شيئاً جاء وانضمّ إليه. وهذا الشي‏ء يُسمّى الغذاء، ويُسمّى- أيضاً- الضدّ، ولكن هذا الشي‏ء لا يزيد من أن يتغيّر في النوع بعينه، كمثل ما يأتي الرطب ينضمّ إلى اليابس، وبانضمامه إليه يتغيّر، بأن يصير هو نفسه يابساً، وفي الواقع‏

 

[1] الكون والفساد: 168- 169

288

الأمثلة التي لا تنسجم معه، في زعمها، وبالتالي وضعت التناقض والصراع بين النقائض والأضداد قاعدة لمنطقها الجديد، وملأت الدنيا ضجيجاً بهذه القاعدة وتبجّحاً على المنطق البشري العامّ بابتكارها أو اكتشافها.
ولأجل أن نتبيّن مدى الخطأ الذي وقعت فيه الماركسية، والذي دفعها إلى رفض مبدأ عدم التناقض، وما يقوم عليه من مبادئ عامة للمنطق الميتافيزيقي، يجب أن نفرّق بوضوح بين أمرين: أحدهما الصراع بين أضداد ونقائض خارجية، والآخر الصراع بين أضداد ونقائض مجتمعة في وحدة معيّنة. فالثاني هو الذي يتنافى مع مبدأ عدم التناقض. وأمّا الأوّل فلا علاقة له بالتناقض مطلقاً؛ لأ نّه لا يعني اجتماع النقيضين أو الضدّين، بل مردّه إلى وجود كلّ منهما بصورة مستقلّة، وقيام كفاح بينهما يؤدّي إلى نتيجة معيّنة. فشكل الشاطئ- مثلًا- نتج عن فعل متبادل بين أمواج الماء وتيّاراته التي تصطدم بالأرض فتقرض الضفة من ناحية، وصمود الأرض في وجه التيار، ودفعها لتلك الأمواج إلى درجة معيّنة من ناحية اخرى. وشكل الإناء من الخزف نتج عن عملية قامت بين كتلة من الطين، ويد الخزّاف.
فإن كانت الماديّة الديالكتيكية تعني هذا اللون من الصراع بين الأضداد الخارجية، فهذا لا يتعارض مطلقاً مع مبدأ عدم التناقض، ولا يدعو إلى الإيمان بالتناقض الذي قام الفكر البشري منذ نشأ على رفضه؛ لأنّ الأضداد لم تجتمع في وحدة، وإنّما وجد كلّ منهما بوجود مستقلّ في مجاله الخاصّ، واشتركا في عمل متبادل، حصلا به على نتيجة معيّنة، وأيضاً فهو لا يبرّر الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن سبب خارجي. فشكل الشاطئ أو شكل الإناء لم يتحدّد ولم يوجد بتطوّر قائم على أساس التناقضات الداخلية، وإنّما حصل بعملية خارجية، حقّقها ضدّان مستقلّان.

287

ب- الإنسان سريع التصديق حال الطفولة. الإنسان ليس سريع التصديق في دور الشباب والنضج. فقد تعلّق النفي والإثبات في هاتين القضيّتين بالإنسان، ولكن كلًاّ منهما له زمانه الخاصّ الذي يختلف عن زمان الآخر، فلا يوجد تناقض بين النفي والإثبات.
ج- الطفل ليس عالماً بالفعل. الطفل عالم بالقوّة، أي: يمكن أن يكون عالماً. وهنا- أيضاً- نواجه نفياً وإثباتاً غير متناقضين؛ لأنّنا في القضية الاولى لم ننفِ نفس الإثبات الذي تحتويه القضية الثانية. فالقضية الاولى تنفي وجود صفة العلم لدى الطفل، والقضية الاخرى لا تثبت وجود الصفة، وإنّما تثبت إمكانها، أي: قابلية الطفل واستعداده الخاصّ لاكتسابها. فقوّة العلم هي التي تثبتها هذه القضية للطفل، لا وجود العلم له فعلًا.
وهكذا نعرف أنّ التناقض بين النفي والإثبات إنّما يتحقّق فيما إذا اشتركا في الموضوع الذي يتناولانه، واتّفقا في الشروط والظروف المكانية والزمانية وغيرها. وأمّا إذا لم يتّحد النفي والإثبات في كلّ هذه الشروط والظروف، فليس بينهما تناقض، ولا يوجد الشخص أو المنطق الذي يحكم باستحالة صدقهما في هذا الحال.

ب- كيف فهمت الماركسية التناقض؟

بعد أن درسنا مفهوم التناقض، ومحتوى المبدأ الأساسي للمنطق العامّ (مبدأ عدم التناقض)، يجب أن نلقي ضوءاً على فهم الماركسية لهذا المبدأ، والمبرّرات التي استندت إليها في الردّ عليه.
وليس من الصعب أن يدرك الإنسان أنّ الماركسية لم تستطع، أو لم تشأ أن تعي هذا المبدأ بمفهومه الصحيح، فأنكرته تحقيقاً لمادّيتها، وحشدت عدداً من‏

286
أ- ما هو مبدأ عدم التناقض؟

إنّ مبدأ عدم التناقض هو المبدأ القائل: بأنّ التناقض مستحيل، فلا يمكن أن يتّفق النفي والإثبات في حال من الأحوال. وهذا واضح. ولكن ما هو هذا التناقض الذي يرفضه هذا المبدأ، ولا يمكن للعقل قبوله؟ فهل هو كلّ نفي وإثبات؟ كلّا؛ فإنّ كلّ نفي لا يناقض أيّ إثبات، وكلّ إثبات لا يتعارض مع كلّ نفي، وإنّما يتناقض الإثبات مع نفيه بالذات لا مع نفي إثبات آخر، ووجود الشي‏ء يتعارض بصورة أساسية مع عدم ذلك الشي‏ء، لا مع عدم شي‏ء آخر. ومعنى تعارضهما: أ نّهما لا يمكن أن يتوحّدا أو يجتمعا. فالمربّع ذو أربعة أضلاع، وهذه حقيقة هندسية ثابتة، والمثلّث ليس له أربعة أضلاع، وهذا نفي صحيح ثابت أيضاً، ولا تناقض مطلقاً بين هذا النفي وذاك الإثبات؛ لأنّ كلًاّ منهما يتناول موضوعاً خاصّاً، يختلف عن الموضوع الذي يتناوله الآخر. فالأضلاع الأربعة ثابتة في المربّع، ومنفية في المثلث، فلم ننفِ ما أثبتنا أو نثبت ما نفينا. وإنّما يوجد التناقض إذا كنّا نثبت للمربّع أضلاعاً أربعة، وننفيها عنه أيضاً، أو نثبتها للمثلّث وننفيها عنه في نفس الوقت.
وبهذا الاعتبار نصّ المنطق الميتافيزيقي على أنّ التناقض إنّما يكون بين النفي والإثبات الموحّدين في ظروفهما. فإذا اختلفت ظروف النفي مع ظروف الإثبات، لم يكن الإثبات والنفي متناقضين. ولنأخذ عدّة أمثلة للنفي والإثبات المختلفين في ظروفهما:
أ- الأربعة زوج. الثلاثة ليست زوجاً. فالنفي والإثبات في هاتين القضيّتين لا تناقض بينهما؛ لاختلاف كلّ منهما عن الآخر بالموضوع الذي يعالجه.
فالإثبات تعلّق بالأربعة، والنفي تعلّق بالثلاثة.

285

التطوّر في التناقض الداخلي.
ولمّا كانت الطبيعة في زعم الماركسية تقدّم الشواهد والدلائل في كلّ مجال وميدان على ثبوت التناقض واجتماع النقائض والأضداد، فيجب الأخذ بوجهة النظر الثانية.
والواقع: أنّ مبدأ عدم التناقض هو أعمّ القوانين وأكثرها شمولًا لجميع مجالات التطبيق، ولا تشذّ عنه ظاهرة من ظواهر الوجود والكون مطلقاً. وكلّ محاولة ديالكتيكية تستهدف الردّ عليه، أو إظهار الطبيعة بمظهر تناقض، فهي محاولة بدائية، قائمة على سوء فهم لمبدأ عدم التناقض، أو على شي‏ء من التضليل.
فلنشرح قبل كلّ شي‏ء مبدأ عدم التناقض بمفهومه الضروري الذي اعتبره المنطق العامّ قاعدة رئيسية للفكر البشري، ونتناول بعد ذلك مظاهر التناقض المزعوم في الطبيعة والوجود، التي تستند إليها الماركسية في تركيز منطقها الديالكتي والإطاحة بمبدأي عدم التناقض والهوية. فنوضّح انسجام تلك الظواهر معهما، وخلوّها عن التناقضات الديالكتيكية، وبذلك يفقد الديالكتيك سنده من الطبيعة ودليله المادّي، وبالتالي نقرّر مدى عجزه عن تفسير العالم وتبرير وجوده.