کتابخانه
38

وكذلك حينما نستقرئ كلّ قطع الحديد فنرى أ نّها تتمدّد بالحرارة، نستخدم هذا الاستقراء للاستدلال على أنّ قطع الحديد تتمدّد بالحرارة، كما يلي:
هذه القطع الحديديّة تتمدّد بالحرارة.
وهذه القطع هي كلّ قطع الحديد.
إذن فكلّ قطع الحديد تتمدّد بالحرارة.
وليست النتيجة المستدلّة استقرائيّاً هي: أنّ هذه القطعة الحديديّة أو تلك تتمدّد بالحرارة، لكي يتاح الاعتراض على الاستدلال الاستقرائي بأنّ النتيجة المستدلّة معلومة مسبقاً في المقدّمات.
وقد يتبادر إلى الذهن أنّ النتيجة المستدلّة استقرائيّاً- وهي أنّ كلّ قطع الحديد تتمدّد بالحرارة- ليست إلّامجرّد تجميع للقضايا الجزئيّة التي تقول: هذه القطعة تتمدّد بالحرارة وهذه تتمدّد أيضاً وتلك تتمدّد وهكذا … ولمّا كانت هذه القضايا الجزئيّة كلّها معلومة مسبقاً خلال نفس عمليّة الاستقراء، فلا يوجد أيّ جديد في النتيجة المستدلّة استقرائيّاً، ما دامت مجرّد تجميع لقضايا معلومة مسبقاً.
ولكنّ الحقيقة أنّ النتيجة المستدلّة استقرائيّاً بالطريقة التي أوضحناها ليست مجرّد تجميع للقضايا الجزئيّة التي عرفت خلال عمليّة الاستقراء، وإنّما هي قضيّة جديدة تختلف عن تلك القضايا.
ولكي ندرك أ نّها قضيّة جديدة، يجب أن نعرف كيف نستنتج هذه القضيّة من الاستقراء؟
إنّ الاستقراء الذي يؤدّي إلى القضيّة القائلة: كلّ قطع الحديد تتمدّد بالحرارة، ليس استقراءً واحداً، بل استقراءين.
فأوّلًا: يقوم المستدلّ باستقراء يحصر بموجبه كلّ قطع الحديد في مجموعة

37

أرسطو حين جعل الاستقراء الكامل دليلًا لم يكن يحاول الاستدلال به على أنّ هذا الحجر يتعرّض للجاذبيّة أو ذاك يتعرّض للجاذبيّة، بل على أنّ كلّ أجزاء المادّة تتعرّض للجاذبيّة. فقد رأينا في نصّ متقدّم لأرسطو أ نّه يميّز بين القياس والاستقراء، فيرى أنّ القياس دليل على ثبوت الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر بواسطة الأوسط، وأنّ الاستقراء دليل على ثبوت الحدّ الأكبر للأوسط بواسطة الأصغر.
وعلى ضوء هذا التمييز من أرسطو بين القياس والاستقراء نستطيع أن نعرف أنّ النتيجة التي يراد في الاعتراض تحميلها على الاستقراء الكامل، وهي: أنّ هذا الحجر أو ذاك يتعرّض للجاذبيّة، ليست نتيجة مستدلّة استقرائيّاً عند أرسطو، بل هي مستدلّة قياسيّاً. فنحن حين نستعمل القياس نقول: (هذا الحجر مادّة وكلّ مادّة تتعرّض للجاذبيّة فهذا الحجر يتعرّض للجاذبيّة)، وبذلك نكون قد أثبتنا الحدّ الأكبر (وهو التعرّض للجاذبيّة) للحدّ الأصغر (وهو هذا الحجر) بتوسّط الحدّ الأوسط (وهو كونه مادّة). وأمّا الاستقراء فيستعمله أرسطو كما يلي:
هذه الأفراد تتعرّض للجاذبيّة.
وهذه الأفراد هي كلّ أجزاء المادّة.
إذن فكلّ أجزاء المادّة تتعرّض للجاذبيّة.
ويسمّي أرسطو (الأفراد)- هذا وهذا وهذا- بالحدّ الأصغر، ويسمّي (المادّة) بالحدّ الأوسط، ويسمّي (التعرّض للجاذبيّة) بالحدّ الأكبر، ويقول: إنّ الاستقراء يدلّ على ثبوت الحدّ الأكبر للأوسط بواسطة الأصغر، لا الأكبر للأصغر بواسطة الأوسط، كما كان في القياس. وهذا يعني أنّ النتيجة المستدلّة بالاستقراء هي: أنّ كلّ أجزاء المادّة تتعرّض للجاذبيّة، لا أنّ هذا الحجر أو ذاك يتعرّض للجاذبيّة.

36

منطقيّاً.

4- إنّ الاستقراء الكامل واجه في بعض الدراسات الحديثة اعتراضاً لا يستهدف المناقشة في كونه برهاناً بالمعنى الأرسطي فحسب، كما تقدّم في النقطة الثانية، بل ينكر هذا الاعتراض على الاستقراء الكامل أن يكون دليلًا بأيّ شكل من الأشكال؛ لأنّ ما يحاول المستقرئ الاستدلال عليه بالاستقراء معروف لديه قبل ذلك من خلال نفس عمليّة الاستقراء.

ويوضّح هذا الاعتراض النصّ التالي: «افرض أنّ النتيجة التي أصل إليها بالعمليّة الاستقرائيّة هي: كلّ مادّة تتعرّض للجاذبيّة، ثمّ افرض أ نّني لم أستبح لنفسي أن أحكم هذا الحكم في النتيجة إلّابعد أن استقصيت ذلك في كلّ أجزاء المادّة- ولنرمز لعينات المادّة التي بحثناها ووجدنا أ نّها معرّضة للجاذبيّة بالرمز:

س 1 س 2 س 3 … س‏ق- فسيكون استدلالي على النحو الآتي:

س 1 س 2 س 3 … س‏ق معرّضة للجاذبيّة.

س 1 س 2 س 3 … س‏ق هي كلّ أجزاء المادّة.

/ كلّ المادّة معرّضة للجاذبيّة.

فإذا صادفني حجر مثلًا عرفت أ نّه معرّض للجاذبيّة، لا لأنّي أستدلّ حكماً جديداً، بل لأنّ الحجر قد سبق ذكره في المقدّمات، وإلّا لما كان استقصاء الأمثلة في المقدّمات كاملًا. إنّما يكون الاستدلال: حين يصادفني شي‏ء لم أكن قد بحثته بذاته ضمن الأمثلة التي أدّت بي إلى النتيجة، فأستدلّ أنّ الحكم الذي في النتيجة لا بدّ منطبق عليه هو أيضاً بالرغم من أ نّي لم أكن قد بحثته»[1].

وهذا الاعتراض يمكن الجواب عليه من وجهة نظر المنطق الأرسطي؛ لأن‏

 

[1] المنطق الوضعي للدكتور زكي نجيب محمود: 403

35

فالاستقراء الكامل إذن لا يمكن أن يستخدم للاستدلال على القضايا الكلّية في العلوم استخداماً منطقيّاً على أساس مبدأ عدم التناقض؛ لأنّ النتيجة فيها دائماً تجي‏ء أكبر من المقدّمات، نظراً لاستيعاب النتيجة لأفراد المستقبل والأفراد الممكنة التي لم يشملها الاستقراء.
ولا فرق في ذلك بين أن نجعل الاستقراء منصبّاً على الجزئيّات: كخالد وبكر وزيد، لاستخلاص حكم عامّ للنوع، كالحكم القائل: كلّ إنسان يجوع …، أو منصبّاً على الأنواع: كالإنسان والحصان والأسد، لاستخلاص حكم عامّ للجنس كالحكم القائل: كلّ حيوان يموت. فإنّ كلًا من النوع أو الجنس لا يتمثّل من الناحية المنطقيّة في الأفراد أو الأنواع التي وجدت فعلًا فحسب، بل إنّ بالإمكان منطقيّاً أن توجد للنوع أفراد اخرى، وللجنس أنواع اخرى. ومن الطبيعي عندئذٍ أن يعجز الاستقراء عن إعطاء حكم عامّ على النوع أو الجنس، وإنّما يؤدّي إلى حكم ممتدّ في حدود الأفراد الموجودة التي تمّ فحصها خلال عمليّة الاستقراء.
وإضافة إلى ذلك إنّ الاستقراء وحده لا يمكن أن يثبت منطقيّاً ذلك الحكم إلّا في اللحظات التي تمّت فيها عمليّة الاستقراء، فنحن حين نفحص خالداً فنجده يجوع ضمن استقرائنا الشامل لكلّ أفراد الإنسان، لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بالحكم بأنّ خالداً يجوع في كلّ الحالات؛ لأنّنا في استقرائنا لم نفحصه إلّافي حالة واحدة، فتعميم الحكم بأ نّه يجوع لغير الحالة التي دخلت في استقرائنا الكامل مباشرة لا يمكن أن يستند منطقيّاً إلى عمليّة الاستقراء، بل هو سير من الخاصّ إلى العامّ، وبالتالي يستبطن الثغرة التي يواجهها كلّ دليل يسير من الخاصّ إلى العامّ.
وهكذا نعرف: أنّ العلوم- بحكم اشتمالها على القضايا الكلّية- لا يمكن أن تقوم على أساس الاستقراء الكامل، وتستمدّ قضاياها الرئيسيّة منه استمدادا

34

وأمّا القضيّة التي يعلم فيها بثبوت المحمول للموضوع ولا يعلم بعلّة هذا الثبوت فليست برهانيّة، ولا يمكن أن تدخل في البرهان على أيّ قضيّة اخرى‏[1].

هذا ما يعتقده المنطق الأرسطي في البرهان والقضيّة البرهانيّة. وعلى هذا الضوء: إذا افترضنا أنّ النتيجة التي يبرّرها الاستقراء الكامل لا تؤكّد سوى أنّ كلّ إنسان يجوع، دون أن تشير إلى أنّ الإنسانيّة أو أيّ معنى عامّ محدّد هو العلّة في الجوع، فليست هذه النتيجة قضيّة برهانيّة، وبذلك ينهار صرح البرهان كلّه؛ لأنّه يرتكز على المقدّمات الأوّليّة، أي المبادئ الاولى للبرهان، وهذه المقدّمات والمبادئ تستمدّ طابعها البرهاني ومبرّرها المنطقي في رأي أرسطو من الاستقراء الكامل. فإذا عجز الاستقراء الكامل عن إنتاج قضيّة برهانيّة- أي عن الكشف عن العلّة الحقيقيّة لثبوت المحمول للموضوع- فقدت بذلك المقدّمات الأوّليّة صفتها البرهانيّة وضرورتها المنطقيّة، وبالتالي يتداعى بناء البرهان والعلم الأرسطي كلّه.

3- إنّ استقراء الأفراد مهما كان شاملًا ومستوعباً لا يمتدّ خارج نطاق الأفراد التي وجدت فعلًا للمعنى الكلّي؛ لأنّ الأفراد التي لم توجد بعد وبالإمكان أن توجد، لا يمكن أن يشملها الاستقراء. فالمستقرئ بإمكانه- ولو من الناحية النظريّة- أن يفحص أو يتعرّف- ولو بصورة غير مباشرة- على حال كلّ فرد وجد من أفراد الإنسان، فيجده يجوع، ولكن ليس بإمكانه أن يفحص الأفراد الذين بالإمكان أن يوجدوا من الإنسان ولم يوجدوا فعلًا. وما دام عاجزاً عن فحص هؤلاء، فلا يمكن للاستقراء أن يؤدّي إلى تعميم كلّي يشمل الأفراد الممكنة للكلّي جميعاً، كالتعميم القائل: إنّ كلّ إنسان يجوع، إلّابقفزة من الخاصّ إلى العامّ، وبذلك يخرج الاستقراء عن كونه استقراءً كاملًا.

 

[1] البرهان لابن سينا: 28

33

بإمكان استنتاج السببيّة ولون من التلازم من الاستقراء الكامل على أساس مبدأ عدم التناقض؛ لأنّا إذا أردنا أن نقرّر في نتيجة الاستقراء الكامل رابطة سببيّة ولوناً من التلازم بين الجوع والإنسانيّة، فقد أضفنا إلى النتيجة شيئاً جديداً لم يكن محتوى في المقدّمات؛ لأنّ المقدّمات تقول: هذا الإنسان يجوع وهذا يجوع وذاك يجوع، ولا تقول شيئاً عن التلازم والسببيّة، وبذلك يفقد الاستنتاج في حالات الاستقراء الكامل مبرّره المنطقي، ويعجز مبدأ عدم التناقض عن تفسيره؛ لأنّ النتيجة تصبح أكبر من المقدّمات، ومبدأ عدم التناقض إنّما يفسّر ويبرّر الاستنتاج في الحالات التي تكون النتيجة فيها مستبطنة بكامل حجمها في المقدّمات، أي مساوية لها أو أصغر منها.
وإن كان المنطق الأرسطي يتبنّى الإجابة الثانية، ويفترض أنّ النتيجة التي يؤكّدها الاستقراء الكامل هي أنّ كلّ إنسان يجوع، دون أن يدخل فيها أيّ افتراض للسببيّة والتلازم، فهذه النتيجة يمكن تبريرها منطقيّاً على أساس مبدأ عدم التناقض؛ لأنّها محتواة في نفس المقدّمات. ولكنّ الاستقراء الكامل في هذه الحالة لا يمكن أن يتّخذ برهاناً بالمفهوم الأرسطي للبرهان. ولكي نعرف ذلك يجب أن نحدّد المفهوم الأرسطي للبرهان:
إنّ المفهوم الأرسطي للبرهان هو: اليقين بثبوت المحمول للموضوع عن طريق معرفة العلّة الحقيقيّة لثبوته له. فكلّ قضيّة علم فيها بثبوت المحمول للموضوع وكان ذلك عن طريق معرفة العلّة التي من أجلها ثبت المحمول للموضوع فهي قضيّة برهانيّة. وهذه العلّة قد تكون نفس الموضوع حيث يكون المحمول ذاتيّاً للموضوع، وقد تكون شيئاً آخر. ففي الحالة الاولى تكون القضيّة من المبادئ الاولى للبرهان، وفي الحالة الثانية تكون القضيّة برهانيّة ثانويّة يثبت محمولها لموضوعها بعلّة معيّنة.

32

النقاط التالية:
1- إنّ الاستقراء الكامل لا يدخل ضمن نطاق الموضوع الرئيس لدراستنا في هذا الكتاب، كما لاحظنا قبل قليل؛ لأنّ الموضوع الذي نحاول درسه هو الدليل الاستقرائي الذي يسير من الخاصّ إلى العامّ، وليس الاستقراء الكامل دليلًا استقرائيّاً بهذا المعنى، بل هو لون من ألوان الاستنباط التي تجي‏ء النتيجة فيها مساوية للمقدّمات، ويكفي مبدأ عدم التناقض لتبرير استنتاج النتيجة منه بالشكل الذي يبرّر به الاستنتاج في كلّ حالات الدليل الاستنباطي.
2- من حقّنا أن نتساءل: ماذا يريد المنطق الأرسطي بالنتيجة التي يفترضها للاستقراء الكامل، ويعتبر استنتاجها منه استنتاجاً منطقيّاً يقوم على مبدأ عدم التناقض؟
ويمكن أن نتصوّر إجابتين على هذا السؤال من وجهة نظر المنطق الأرسطي:
الإجابة الاولى: أن يريد المنطق الأرسطي بالنتيجة التي يفترضها للاستقراء الكامل: قضية عامّة تؤكّد لوناً من التلازم أو السببيّة بين الجوع والإنسانيّة، عند استقراء كلّ أفراد الإنسان والتعرّف على أ نّهم يجوعون. فنحن حين نعرف خلال عمليّة الاستقراء أنّ هذا الإنسان يجوع وهذا الإنسان يجوع وذاك يجوع، نخرج من ذلك بنتيجة تؤكّد أنّ بين الإنسانية الموجودة في جميع اولئك الأفراد والجوع رابطة معيّنة.
الإجابة الثانية: أن يكتفي المنطق الأرسطي من الاستقراء الكامل بالخروج بنتيجة تؤكّد أنّ كلّ إنسان يجوع، دون أن تدّعي لنفسها القدرة على الكشف عن تلازم أو رابطة سببيّة بين الجوع والإنسانيّة بمفهومها العامّ.
فإن كان المنطق الأرسطي يتبنّى الإجابة الاولى، فهو على خطأ في اعتقاده‏

31

وهكذا نجد أنّ أرسطو في هذا النصّ وثق بالاستقراء الكامل، واتخذ منه الأساس الأوّل لكلّ الأقيسة والبراهين؛ لأنّ كلّ هذه البراهين تستمدّ من المقدّمات الأوّليّة، وهذه المقدّمات تثبت بالاستقراء، لا بالقياس.

ولم يحتفظ الاستقراء الكامل بعد ذلك في المنطق الأرسطي بمركزه الرئيس كأساس للمقدّمات الأوّليّة للقياس، غير أ نّه احتفظ بوصفه دليلًا منطقيّاً مؤكّداً.

فابن سينا[1] لا يعتبر الاستقراء وسيلة للبرهنة على المقدّمات الأوّليّة للقياس التي لا وسط بين محمولها وموضوعها، بل يقرّر أنّ كلّ مقدّمة أوّليّة من هذا القبيل لا يمكن أن تثبت إلّاعلى أساس وضوحها الذاتي، لا على أساس القياس ولا الاستقراء[2]. ولكنّه يعترف إلى جانب ذلك بأنّ الاستقراء الكامل دليل منطقي مؤكّد.

نقد الموقف الأرسطي من الاستقراء الكامل:

وتعليقنا على موقف المنطق الأرسطي من الاستقراء الكامل يتلخّص في‏

______________________________

– يعتبر الحدّ الأصغر هو زيد وخالد وبكر، والحدّ الأكبر: صفة أ نّه يأكل، والحدّ الأوسط هو الإنسان، والاستقراء يتولّى مهمّة إثبات الحدّ الأكبر للأوسط عن طريق الحدّ الأصغر أي إثبات صفة أ نّه يأكل للإنسان بواسطة زيد وخالد وبكر. (المؤلّف قدس سره)

[1] جاء في ترجمته: أبو علي حسين بن عبد اللَّه بن حسن بن عليّ بن سينا( 363- 428 ه ق): فيلسوف وطبيب وعالم من كبار فلاسفة الإسلام وأطبّائهم، عُرف بالشيخ الرئيس، ولد في« أفشنة» قرب« بخارى» وتوفّي في« همدان» ودُفن فيها، تعمّق في درس فلسفة« أرسطو» وتأثّر بالأفلاطونيّة الحديثة، من جملة مؤلّفاته:« القانون»،« الشفاء»،« النجاة»،« الإشارات والتنبيهات»،« الحدود»( لجنة التحقيق)

[2] البرهان لابن سينا: 44- 45

30

الأوسط بينهما، وهكذا حتّى نصل في تسلسل متصاعد إلى المقدّمات الأوّليّة التي يثبت فيها المحمول للموضوع بذاته، وبدون وسيط بينهما. وفي هذه المقدّمات لا يمكن أن نستخدم القياس في البرهنة على ثبوت المحمول للموضوع؛ لأنّ القياس يتطلّب وسيطاً بينهما ولا وسيط بين الموضوع والمحمول في هذه المقدّمات، فالطريق الوحيد الممكن افتراضه في رأي أرسطو للبرهنة على هذه المقدّمات هو الاستقراء الكامل.

قال أرسطو: «وينبغي أن تعلم: أنّ الاستقراء ينتج أبداً المقدّمة الاولى التي لا واسطة لها؛ لأنّ الأشياء التي لها واسطة، بالواسطة يكون قياسها. أمّا الأشياء التي لا واسطة لها، فإنّ بيانها يكون بالاستقراء، والاستقراء من جهة يعارض القياس؛ لأنّ القياس بالواسطة يبيّن وجود الطرف الأكبر في الأصغر، وأمّا بالاستقراء فيبيّن بالطرف الأصغر وجود الأكبر في الأوسط»[1].

 

[1] منطق أرسطو، التحليلات الاولى، المقالة الثانية، الفصل الثالث والعشرون.

وهذه التفرقة التي جاءت في هذا النصّ بين القياس والاستقراء تتضح من خلال المقارنة بين مثالين للقياس والاستقراء كما يتصوّرهما أرسطو:

فنحن في القياس نقول: إذا كان شي‏ء ما إنساناً فهو يجوع، وإذا كان يجوع فهو يأكل، ونستنتج من ذلك أنّ أيّ شي‏ء إذا كان إنساناً فهو يأكل. وبهذا نكون قد أثبتنا- بطريقة قياسيّة- للإنسان المفترض، صفة أ نّه يأكل، بتوسّط أن يجوع. والإنسان في هذا القياس هو الحدّ الأصغر، وصفة أ نّه يأكل هو الحدّ الأكبر، وصفة أ نّه يجوع هو الحدّ الأوسط. وهكذا ثبت الأكبر للأصغر عن طريق الحدّ الأوسط.

ونحن في الاستقراء الكامل نقول: زيد وخالد وبكر هم كلّ أفراد الإنسان، وزيد وخالد وبكر يأكلون، فنستنتج من ذلك بطريقة استقرائيّة، أنّ كلّ إنسان يأكل. وفي هذا الاستقراء-