کتابخانه
47

التي استقرأناها في الخصائص والمقوّمات، فبالإمكان أن يختلف عنها في هذه الظاهرة أيضاً.

قال الغزالي‏[1]: «ولا يكفي في تمام الاستقراء أن تتصفّح ما وجدته شاهداً على الحكم إذا أمكن أن ينتقل عنه شي‏ء، كما لو حكم إنسان بأنّ كلّ حيوان يحرّك عند المضغ فكّه الأسفل؛ لأنّه استقرأ أصناف الحيوانات الكثيرة ولكنّه لمّا لم يشاهد جميع الحيوانات، لم يأمن أن يكون في البحر حيوان هو التمساح يحرّك عند المضغ فكّه الأعلى- على ما قيل-. وإذا حكم بأنّ كلّ حيوان سوى الإنسان فنزواته على الانثى من وراء بلا تقابل الوجهين لم يأمن أن يكون سفاد القنفذ- وهو من الحيوانات- على المقابلة، لكنّه لم يشاهده. فإذن حصل من هذا أنّ الاستقراء التامّ يفيد العلم، والناقص يفيد الظنّ»[2].

وقال ابن سينا: «وأمّا الاستقراء فهو الحكم على كلّي بما وجد في جزئيّاته الكثيرة. مثل حكمنا بأنّ كلّ حيوان يحرّك عند المضغ فكّه الأسفل، استقراءً للناس والدواب والطير. والاستقراء غير موجب للعلم الصحيح، فإنّه ربما كان ما لم يُستقرأ بخلاف ما استُقرئ، مثل التمساح في مثالنا، بل ربما كان المختلف فيه والمطلوب بخلاف حكم جميع ما سواه»[3].

وأمّا استخدام الاستقراء للتعميم إلى الحالات المماثلة والمشابهة في كل‏

 

[1] أبو حامد محمّد الغزالي( 450- 505 ه) فيلسوف متكلّم من أهل طوس بخراسان درس علم الكلام على« الجويني». كتب« تهافت الفلاسفة» نقداً للعلوم الفلسفيّة، وله أيضاً:« إحياء علوم الدين» و« مقاصد الفلاسفة» وغير ذلك( لجنة التحقيق)

[2] معيار العلم للغزالي: 163

[3] منطق الإشارات لابن سينا: 231

46

المبدأ الأرسطي لتبرير الاستقراء

إذا قمنا باستقراء لنثبت تعميماً من التعميمات، فتارة: نريد أن نعمّم الظاهرة التي استهدفناها من استقرائنا لحالاتٍ تختلف في بعض الخصائص الملحوظة عن الحالات التي شملها الاستقراء. واخرى: نريد أن نعمّم تلك الظاهرة للحالات المماثلة للحالات التي امتدّ إليها الاستقراء والمشابهة لها في كلّ ما ندركه من المقوّمات التي يمكن أن تكون ذات أثر في تكوين تلك الظاهرة[1].

ويؤكّد المنطق الأرسطي أنّ التعميم الأوّل ليس صحيحاً من الناحية المنطقيّة؛ إذ ما دامت الحالات التي لم يشملها الاستقراء تختلف- في بعض الخصائص الملحوظة والمقوّمات- عن الحالات التي استقرأناها، فليس من حقّنا أن نستنتج استقرائيّاً أ نّها جميعاً تشترك في إيجاد ظاهرة واحدة؛ لأنّ من الممكن أن يكون اختلافها في الخصائص والمقوّمات، سبباً لاختلاف نوع علاقتها بتلك الظاهرة.

فإذا استقرأنا مثلًا كلّ أنواع الحيوان البرّي، فوجدنا أ نّها تحرّك عند المضغ فكّها الأسفل، لم يكن بإمكاننا أن نعمّم هذه الظاهرة (تحريك الفكّ الأسفل عند المضغ) على حيوان بحري، كالتمساح مثلًا؛ لأنّ التمساح يختلف عن الحيوانات‏

[1] وهذا يعني أنّ ميزان الفرق بين القسمين المذكورين للتعميم إنّما هي المماثلة وعدم المماثلة بلحاظ الخصائص والمقوّمات الملحوظة لا غير الملحوظة، فإذا أردنا التعميم إلى الحالات المماثلة في كلّ الخصائص الملحوظة كان من القسم الثاني، حتّى وإن كانت تختلف- حسب الواقع- في خصائص غير ملحوظة( لجنة التحقيق)

45

المستقبل، وفي كلّ الحالات التي لم يشملها الاستقراء.

وسوف نرى أنّ المنطق الأرسطي قد اعترف بأنّ عمليّة الاستقراء وحدها لا تستطيع أن تتغلّب على هذه المشكلة، وتثبت سببيّة إحدى الظاهرتين المقترنتين خلال الاستقراء للُاخرى. ولكنّه حاول التغلّب عليها عن طريق افتراض قضيّة عقليّة قبليّة تنفي أن يكون اقتران الظاهرتين مجرّد صدفة[1]. وبإضافة هذه القضيّة العقليّة إلى عمليّة الاستقراء يتكامل الدليل الاستقرائي في رأي المنطق الأرسطي.

وهكذا نعرف أنّ الاستدلال الاستقرائي يكتسب لدى المنطق الأرسطي قدرته على إثبات التعميم من قضايا عقليّة قبليّة ثلاث كلّ واحدة منها تحلّ إحدى المشاكل الثلاث المتقدّمة.

والآن سوف ندرس بالتفصيل الموقف الأرسطي على الصعيد المنطقي من مشكلة الاستقراء، الذي عالج فيه المنطق الأرسطي المشكلة الثانية من المشاكل الثلاث التي أثرناها، ونترك علاج المشكلة الاولى والثالثة إلى البحث الفلسفي.

ونحن في دراستنا لموقف المنطق الأرسطي من المشكلة الثانية، سوف نفترض صحّة المواقف التي اتخذها على صعيد البحث الفلسفي من مبدأ السببيّة والقضايا المتفرّعة عنه، وتغلّب بسببها على المشكلتين الاولى والثالثة، ونتّجه في درسنا إلى ملاحظة مدى التوفيق الذي أحرزه على الصعيد المنطقي للتغلّب على المشكلة الثانية.

 

[1] وهي القضيّة القائلة: إنّ الاتّفاق( الصدفة) يستحيل أن يكون دائميّاً أو أكثريّاً، بمعنى أنّ أيّ شيئين ليست بينهما رابطة سببيّة، لا يتكرّر اقترانهما في جميع الأحيان، ولا في أكثر الأحيان، كما سيأتي ذلك في المتن( لجنة التحقيق)

44

مهمّة المنطق الأرسطي تجاه المشكلة:

والمنطق الأرسطي لم يعالج على الصعيد المنطقي إلّاالمشكلة الثانية من هذه المشاكل كما سنعرف.
وأمّا المشكلة الاولى والثالثة فقد عولجتا فلسفيّاً على صعيد الفلسفة العقليّة، التي يؤمن بها المنطق الأرسطي.
ذلك أنّ المنطق الأرسطي يؤمن بوجود معارف عقليّة مستقلّة عن الحسّ والتجربة، ومن أجل ذلك يتبنّى الفلسفة العقليّة التي تعالج تلك المعارف العقليّة القبليّة، وتمارس استنباط معارف اخرى منها.
وعلى هذا الأساس يعتمد المنطق الأرسطي على الفلسفة العقليّة ومفاهيمها عن السببيّة، في حلّ المشكلة الاولى والمشكلة الثالثة.
فبالنسبة إلى المشكلة الاولى تؤمن الفلسفة العقليّة بمبدأ السببيّة القائل: (أنّ لكلّ حادثة سبباً)، وتعتقد أ نّه من المبادئ العقليّة المستقلّة عن التجربة والخبرة الحسيّة، وعن طريق هذا المبدأ تتغلّب على المشكلة الاولى، وتثبت أنّ الظاهرة الطبيعيّة المدروسة خلال الاستقراء لا بدّ أن تكون مرتبطة بسبب.
وبالنسبة إلى المشكلة الثالثة تؤمن الفلسفة العقليّة بالقضيّة القائلة: (إنّ الحالات المتشابهة من الطبيعة تؤدّي إلى نتائج متماثلة). وتعتقد أنّ هذه القضيّة عقليّة مستقلّة عن التجربة، ومستنبطة بطريقة برهانيّة من مبدأ السببيّة.
فلهذا لا يجد المنطق الأرسطي على الصعيد المنطقي مشكلة أمامه سوى المشكلة الثانية وهي: أ نّه كيف يستطيع أن يستدلّ بالاقتران بين ظاهرتين على السببيّة بينهما، مع أنّ من المحتمل أن يكون اقترانهما مجرّد صدفة؟ وإذا كان ذلك محتملًا فليس من الضروري أن يتكرّر اقتران إحدى الظاهرتين بالاخرى في‏

43

وهكذا أيّ ظاهرة إذا اقترنت بشي‏ء خلال الاستقراء، فإنّه لا يكفي هذا الاقتران لإثبات أنّ أحدهما سبب للآخر، ما دام من الجائز أن يكون للظاهرة سبب آخر غير ملحوظ قد اقترن صدفة بالشي‏ء الملحوظ خلال الاستقراء.
وإذا جاز نظريّاً تفسير الاقتران بين الحرارة والتمدّد في التجربة [الاولى‏] على أساس الصدفة، جاز استعمال نفس التفسير إذا تكرّر الاقتران في التجربة الثانية أيضاً؛ لأنّ ما يجوز عقلًا في التجربة الاولى يجوز في التجربة الثانية أيضاً.
وهكذا يظلّ احتمال الصدفة قائماً من الناحية المنطقيّة، فلا يمكن للاقتران بين الظاهرتين مهما تكرّر أن يبرهن على السببيّة بينهما.
ولنتّفق منذ الآن في بحوث هذا الكتاب- من أجل السهولة- على أن نعبّر عن الظاهرة التي يحاول الدليل الاستقرائي أن يثبت كونها سبباً ب (أ) أو (الألف)، ونعبّر عن الظاهرة التي يحاول الدليل الاستقرائي أن يثبت ارتباطها بالظاهرة الاولى ب (ب) أو (الباء)، ونعبّر عن الأمر الثالث الذي يحتمل أن يكون هو السبب الحقيقي لوجود (ب) بدلًا عن الألف ب (ت) أو (التاء).
وثالثاً: إذا اتيح للدليل الاستقرائي أن يثبت السببيّة العامّة في الطبيعة، وأن يبرهن على أنّ الألف هو سبب الباء التي اقترنت به خلال الاستقراء، أي أنّ الحرارة هي سبب التمدّد في الحديد مثلًا في الحالات التي شملها الاستقراء، فيجب عليه أن يثبت أنّ هذا السبب سوف يظلّ في المستقبل- وفي كلّ الحالات التي لم تشملها التجربة فعلًا- سبباً لتلك الظاهرة، إذ بدون إثبات ذلك لا يمكن أن نصل إلى تعميم شامل يؤكّد: أ نّه كلّما وجد الألف في عالم الطبيعة اقترنت به الباء.
هذه مشاكل ثلاث يمكن أن تثار عادة عند محاولة تفسير الدليل الاستقرائي، وتبرير الطفرة التي يستبطنها.

42

الاستدلال الاستقرائي.
غير أنّ التفكير المعمّق منطقيّاً وفلسفيّاً يثير في هذا المجال عدّة اعتراضات ضدّ هذا اللون من التفكير الاعتيادي:
فأوّلًا: يجب على الدليل الاستقرائي أن يثبت أنّ لكلّ ظاهرة طبيعيّة سبباً (السببيّة العامّة)، إذ بدون إثباته ذلك يصبح من المحتمل أن يكون وجود التمدّد في الحديد غير مرتبط بأيّ سبب، وإنّما هو وجود تلقائي. وإذا جاز أن يكون وجوداً تلقائيّاً بدون سبب، فليس من الضروري أن يتكرّر إذا حدثت الحرارة مرّة اخرى في الحديد.
وثانياً: إذا اتيح للدليل الاستقرائي أن يثبت أنّ لكلّ ظاهرة طبيعيّة سبباً (أي يثبت السببيّة العامّة) فهذا يعني أنّ تمدّد الحديد الذي شوهد خلال التجربة مرتبط بسبب معيّن، ولكن لا يكفي ذلك لإثبات أنّ سبب التمدّد هو الحرارة التي اقترنت بهذا التمدّد في كلّ التجارب المتعاقبة؛ لأنّا إذا نظرنا من زاوية السببيّة العامّة فحسب نجد أنّ من الممكن أن يكون السبب الذي يرتبط به تمدّد الحديد شيئاً آخر غير تعرّضه للحرارة؛ لأنّ السببيّة العامّة تحكم بأنّ للتمدّد سبباً، ولكنّها لا تعيّن نوعيّته.
فيجب على الدليل الاستقرائي- بعد أن يثبت السببيّة العامّة- أن يفتّش عن برهان يثبت به أنّ سبب التمدّد في الحديد- مثلًا- هو الحرارة التي اقترن بها التمدّد خلال التجربة. ولا يصلح مجرّد الاقتران بين التمدّد والحرارة في التجربة برهاناً- من الناحية المنطقيّة- على السببيّة بينهما؛ لأنّ الاقتران بينهما كما يمكن أن يكون نتيجة للسببيّة، كذلك يمكن أن يكون مجرّد صدفة ويكون التمدّد مرتبطاً بسبب آخر اتّفق وجوده في نفس اللحظة التي وجدت فيها الحرارة في الحديد.

41

الموقف الأرسطي من الاستقراء الناقص‏

[تمهيد]

مشكلة الاستقراء الناقص:

ونصل الآن إلى الموقف الأرسطي من الاستقراء الناقص، ومشكلة الطفرة فيه من الخاصّ إلى العامّ، وهو الموقف الذي يعنينا بصورة رئيسيّة في دراستنا هذه.
وأكبر الظنّ أ نّك إذا طرحت مشكلة هذه الطفرة في الاستدلال الاستقرائي من الخاصّ إلى العام على إنسان اعتيادي، فسوف يشرح لك أفكاره عن الطريقة التي يتمّ بها الاستدلال الاستقرائي بما يلي:
إنّنا نواجه في الاستقراء ظاهرتين تقترنان في كلّ التجارب التي شملها الاستقراء، من قبيل الحرارة والتمدّد في الحديد، وما دام التمدّد في الحديد ينشأ من سبب في الطبيعة، فمن الطبيعي أن نستنتج من الاقتران المستمرّ بين التمدّد والحرارة في تجاربنا العديدة: أنّ الحرارة هي السبب في التمدّد. وإذا كانت الحرارة هي سبب التمدّد، فمن حقّنا أن نؤكّد على سبيل التعميم أ نّه كلّما وجدت الحرارة في الحديد ظهر فيه التمدّد؛ لأنّ كلّ ظاهرة توجد دائماً عند وجود سببها.
وهكذا يعالج التفكير الاعتيادي للإنسان السويّ مشكلة الطفرة ويفسّر

40

نتائج البحث:

والنتائج التي نخرج بها من هذا البحث هي كما يلي:
أوّلًا: إنّ الاستقراء الكامل لا يدخل في الموضوع الأساس الذي ندرسه في هذا الكتاب.
ثانياً: إنّ الدليل الاستقرائي إذا قام على أساس الاستقراء الكامل يؤدّي إلى العلم بالنتيجة؛ لأنّها لازمة للاستقراء الكامل لزوماً منطقيّاً.
ثالثاً: إنّ الاستقراء الكامل لا يمكن أن يعتبر برهاناً بالمعنى الأرسطي؛ لعدم قدرته بمفرده على اكتشاف العلّة.
رابعاً: إنّ الاستدلال بالاستقراء الكامل صحيح من الناحية الصوريّة منطقيّاً، وليس من قبيل الاستدلال على الشي‏ء بنفسه.
خامساً: إنّ الاستقراء الكامل لا يمكن أن يتوفّر في القضايا الكليّة في العلوم.

39

معيّنة من المادّة، ويتمّ ذلك عن طريق فحص المستقرئ كلّ أجزاء العالم لكي يستطيع أن يستوعب كلّ قطع الحديد، ويميّزها عن غيرها من خشب أو فحم أو ماء، ويخرج المستقرئ من فحصه واستقرائه هذا بنتيجة وهي: أنّ تلك المجموعة- التي ميّزها عن غيرها من المجاميع- هي كلّ قطع الحديد في العالم.
وثانياً: يقوم المستدلّ بفحص أفراد تلك المجموعة قطعة قطعة ليجد أنّ كلّ عضو فيها يتمدّد بالحرارة، ويخرج المستقرئ من فحصه واستقرائه هذا بنتيجة وهي: أنّ كلّ عضو في هذه المجموعة يتمدّد بالحرارة.
وهكذا تصبح لدى المستقرئ قضيّتان ناتجتان عن استقراءين:
إحداهما: أنّ القطع الحديديّة- التي ميّزها في استقرائه الأوّل- هي كلّ قطع الحديد في العالم.
والاخرى: أنّ كلّ واحدة من هذه القطع تتمدّد بالحرارة.
وهاتان القضيّتان يلزم عنهما من الناحية المنطقيّة أنّ كلّ قطع الحديد تتمدّد بالحرارة، إذ لدينا مجموعة من القطع الحديديّة وصفناها في القضيّة الاولى بأ نّها كلّ قطع الحديد، ووصفناها في القضيّة الثانية بأ نّها جميعاً تتمدّد بالحرارة، فمن الطبيعي أن نستنتج من ذلك العلاقة بين نفس الوصفين، ونعرف أنّ كلّ قطع الحديد تتمدّد بالحرارة.
وهكذا نعرف أنّ القضيّة المستدلّة بالاستقراء تعبّر عن العلاقة بين الوصفين أو المحمولين للمجموعة الواحدة، وهي علاقة مستنتجة منطقيّاً من علاقتين:
إحداهما علاقة أحد المحمولين بأعضاء المجموعة، والاخرى علاقة المحمول الآخر بالمجموعة. والاستدلال الاستقرائي على هذا الأساس صحيح من الناحية المنطقيّة؛ لأنّه استدلال على قضيّة جديدة مستنتجة من القضايا التي عرفت خلال استقراءين مزدوجين.