کتابخانه
56

أن يكون المبدأ القائل أنّ الاتفاق في الطبيعة لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً معرفة عقليّة قبليّة، فنحن وإن كنّا نعلم بأنّ الاتفاق في الطبيعة لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً، إلّا أنّ علمنا بذلك ليس علماً عقليّاً قبليّاً، بل هو نتاج من نتاجات الدليل الاستقرائي نفسه، فلا يمكن أن يشكّل الأساس المنطقي للاستقراء، ويقدّم له المبرّر العقلي الكافي.
ولا بدّ لنا الآن- ما دام هذا المبدأ حجر الزاوية في الموقف الأرسطي على الصعيد المنطقي من مشكلة الاستقراء- أن نحصل على تصوّر محدّد لهذا المبدأ العقلي المفترض وأبعاده، ثمّ نقيّمه بعد ذلك ونكتشف حقيقته، وهل هو من المبادئ العقليّة القبليّة، أو من القضايا المرتبطة بالاستقراء والتجربة؟

معنى الاتفاق في المبدأ الأرسطي:

وقبل كلّ شي‏ء يجب أن نعرف المعنى الذي يقصده المنطق الأرسطي من كلمة (الاتفاق) في المبدأ الذي وضعه أساساً للاستقراء والذي يقول: إنّ الاتفاق لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً.
إنّ الاتفاق بمعنى (الصدفة)، والصدفة تعتبر نقطة مقابلة للّزوم، فإذا استطعنا أن نفهم معنى اللزوم أمكننا أن نحدّد معنى الصدفة، بوصفه المفهوم المقابل للّزوم والنقيض له.
واللزوم على نحوين: اللزوم المنطقي، واللزوم الواقعي.
واللزوم المنطقي: لون من الارتباط بين قضيّتين أو مجموعتين من القضايا، يجعل أيّ افتراض للانفكاك بينهما يستبطن تناقضاً. كاللزوم المنطقي‏

55

التفسير الأرسطي ونظريّة المعرفة:

وهذا التفسير الأرسطي للدليل الاستقرائي، القائم على أساس افتراض قضايا عقليّة قبليّة يرتبط بموقف المنطق الأرسطي في نظريّة المعرفة ورأيه في مصادرها الأساسيّة، فإنّ المنطق الأرسطي يؤمن في نظريّة المعرفة: بأنّ العقل مصدر لمعرفة قبليّة مستقلّة عن التجربة والاستقراء؛ وعلى أساس ذلك يكون بإمكانه أن يفسّر الدليل الاستقرائي، ويبرّر التعميمات الاستقرائيّة بقضايا عقليّة قبليّة، من قبيل المبدأ القائل: أنّ الاتفاق لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً، فيكتسب الدليل الاستقرائي طابعه العقلي من تلك القضايا العقليّة القبليّة.
وهذا التصوّر الأرسطي للدليل الاستقرائي وجذوره العقليّة لا يتّفق مع الاتجاه الآخر في نظريّة المعرفة، الذي يرفض وجود معارف عقليّة مستقلّة عن التجربة والخبرة الحسّية، ويعتبر أنّ التجربة والخبرة هي المصدر الوحيد للمعرفة؛ لأنّ رفض معارف عقليّة مستقلّة عن التجربة، يعني أنّ المبدأ الأرسطي- الذي ينفي الاتفاق الدائمي والغالبي في الطبيعة- لا يمكن أن يكون معلوماً قبليّاً بصورة مستقلّة عن الاستقراء والتجربة، بل إذا كنّا ندرك شيئاً من هذا القبيل حقّاً، فيجب أن يكون إدراكنا له قائماً على أساس التجربة والاستقراء، وهذا يؤدّي بنا إلى أنّ المبدأ الأرسطي نفسه ليس إلّانتيجة من نتائج التعميم الاستقرائي، فلا يمكن أن يشكّل الأساس المنطقي للتعميمات الاستقرائيّة.
ونحن نؤمن بالمعرفة العقليّة القبليّة وفاقاً للمنطق الأرسطي، كما سنرى في فصل مقبل من فصول هذا الكتاب إن شاء اللَّه تعالى، وعلى هذا الأساس فبإمكاننا أن نتقبّل افتراض وجود معرفة عقليّة قبليّة، ولكنّنا ننكر في نفس الوقت‏

54

الناقص والتجربة، بأنّ المنطق الأرسطي يريد بالاستقراء الناقص الذي لا يصلح أساساً للعلم بالتعميم، ملاحظة أشياء جاهزة ناجزة في الطبيعة، من قبيل ما إذا لاحظنا عدداً كبيراً من الغربان فوجدناها سوداء، ففي هذه الحالة ليس من حقّنا أن نبني على هذه الملاحظة العلم بأنّ كلّ غراب أسود. وأمّا التجربة التي تصلح أساساً للعلم فهي تعبّر عن عمليّة فيها شي‏ء من التأثير والتأثّر[1]، أو بتعبير آخر هي عمل إيجابي يقوم به الإنسان، من قبيل أن يسلّط الحرارة على الحديد فيتمدّد في كثير من الحالات، فنستنتج أنّ كلّ حديد يتمدّد بالحرارة.

وبهذه التفرقة بين الاستقراء والتجربة التي حاولها بعض شرّاح المنطق الأرسطي نقترب بالتجربة نحو المفهوم العلمي الحديث لها، ونقترب بالاستقراء الناقص نحو ما يسمّى بالملاحظة المنظّمة في لغة المنهج العلمي الحديث.

ولكنّ هذا التفسير للموقف الأرسطي خاطئ؛ لأنّ المنطق الأرسطي لم يرد بالتجربة التي اعتبرها أساساً للعلم بالتعميم- كما تقدّم- إلّانفس الاستقراء الناقص، ولكن في حالة تكوين قياس منطقي يستمدّ صغراه من الاستقراء الناقص وكبراه من مبدأ عقلي قبلي ينفي تكرّر الصدفة، فالتجربة لا تختلف عن الاستقراء الناقص في نوعيّة النشاط الذي يمارسه الإنسان، وكونه نشاطاً إيجابياً فاعلًا أو مجرّد ملاحظة، بل تختلف عنه في اشتمالها على مبدأ عقلي قبلي ينضمّ إلى الأمثلة المستقرأة، فيتكوّن من المجموع قياس كامل. ولهذا يعتبر ابن سينا استقراء مواليد الزنوج الذي يدلّ على أنّ ابن الزنجي أسود تجربة، بالرغم من أ نّه لا يحتوي على أيّ تأثير وتأثّر أو عمل إيجابي من الإنسان المستقرئ‏[2].

 

[1] يراجع شرح المنظومة للسبزواري 1: 325

[2] البرهان لابن سينا: 47

53

ليست التجربة إلّامشاهدات متكرّرة، كما أنّ الاستقراء أيضاً مشاهدات متكرّرة، فكيف أفاد التجربة اليقين دون الاستقراء؟! فالجواب: أ نّه إذا تكرّرت المشاهدات على وقوع شي‏ء، وعلم بالعقل أ نّه ليس اتفاقيّاً، إذ الاتفاقيّات لا تكون دائمة ولا أكثريّة، كانت التجربة مفيدة لليقين. وإن لم يعلم ذلك واستدلّ بمجرّد المشاهدات الجزئيّة بدون ذلك القياس على الحكم الكلّي كان استقراءً ولا يفيد اليقين»[1].

خطأ في فهم الموقف الأرسطي:

وعلى هذا الضوء نعرف خطأ كثير من الباحثين المحدثين وغيرهم، إذ خيّل لهم أنّ المنطق الأرسطي ينكر التعميمات الاستقرائيّة ولا يعترف بالقضايا المستدلّة بالاستقراء الناقص، ويرى أنّ الاستقراء إذا لم يكن شاملًا فهو يعجز عن إثبات التعميم.

والواقع- كما تقدّم- إنّ المنطق الأرسطي يؤمن بإمكان التوصّل عن طريق الاستقراء الناقص إلى التعميم، ولكن لا على أساس التجميع العددي للأمثلة فحسب، بل على أساس مبدأ عقلي قبلي يتأ لّف منه ومن الأمثلة المستقرأة قياس كامل يبرهن على السببيّة، وبالتالي على التعميم لكلّ الحالات المماثلة، ويسمّي المنطق الأرسطي ذلك بالتجربة، ويعتبر التجربة أحد مصادر العلم وأساساً صالحاً للتعميم، بينما يسمّي التجميع العددي للأمثلة فقط بالاستقراء الناقص، ويعتقد بأ نّه غير صالح منطقيّاً لإثبات التعميم.

وهناك من يحاول أن يفسّر تمييز المنطق الأرسطي هذا بين الاستقراء

 

[1] منطق الإشارات 1: 217

52

الأمثلة والشواهد وكبراه من ذلك المبدأ العقلي، ويصل في النتيجة إلى أنّ إحدى الظاهرتين المقترنتين في الاستقراء هي السبب للُاخرى، وما دامت هي السبب فسوف تقترن بها دائماً في جميع الحالات.

وهكذا نعرف أنّ المنطق الأرسطي حين يؤكّد في بعض نصوصه على أنّ الاستقراء الناقص لا يفيد علماً، ويؤكّد في مجال آخر أنّ التجربة تفيد العلم، يريد بالاستقراء الناقص الذي لا يفيد العلم مجرّد التجميع العددي للأمثلة، دون إضافة أيّ مبدأ عقلي مسبق، ويريد بالتجربة التي تفيد العلم تلك الأمثلة فيما إذا اتيح تطبيق مبدأ عقلي مسبق عليها وتأليف قياس منطقي يبرهن على السببيّة من مجموع ذلك.

قال ابن سينا: «ولقائلٍ أن يقول: ما بال التجربة تفيد الإنسان علماً بأنّ (السقمونيا)[1] تسهل الصفراء، على وجه يخالف في إفادته إفادة الاستقراء، فإنّ الاستقراء إمّا أن يكون مستوفى الأقسام وإمّا أن لا يوقع غير الظنّ الأغلب، والتجربة ليست كذلك … فنقول في جواب ذلك: إنّ التجربة ليست تفيد العلم لكثرة ما يشاهد على ذلك الحكم فقط، بل لاقتران قياس به قد ذكرناه»[2].

 

[1] جاء توصيفه في كتاب« القانون في الطبّ» لابن سينا 1: 593- 594 بأ نّه:« نبات له ثلاثة أغصان كبيرة … وله زهر أبيض مستدير أجوف، شبيه في شكله بالقرطالة، ثقيل الرائحة … إذا شرب منه المقدار المفرط- وهو نصف درهم- أمسك أوّلًا، ثمّ أكرب وغثّى وعرق عرقاً بارداً، ثمّ ربما انبعث إسهاله بإفراط، وهو قاتل. وأصل هذا النبات مسهل البطن …»( لجنة التحقيق)

[2] البرهان، لابن سينا: 46

51

الأمثلة والشواهد وكبراه من ذلك المبدأ العقلي، ويصل في النتيجة إلى أنّ إحدى الظاهرتين المقترنتين في الاستقراء هي السبب للُاخرى، وما دامت هي السبب فسوف تقترن بها دائماً في جميع الحالات.

وهكذا نعرف أنّ المنطق الأرسطي حين يؤكّد في بعض نصوصه على أنّ الاستقراء الناقص لا يفيد علماً، ويؤكّد في مجال آخر أنّ التجربة تفيد العلم، يريد بالاستقراء الناقص الذي لا يفيد العلم مجرّد التجميع العددي للأمثلة، دون إضافة أيّ مبدأ عقلي مسبق، ويريد بالتجربة التي تفيد العلم تلك الأمثلة فيما إذا اتيح تطبيق مبدأ عقلي مسبق عليها وتأليف قياس منطقي يبرهن على السببيّة من مجموع ذلك.

قال ابن سينا: «ولقائلٍ أن يقول: ما بال التجربة تفيد الإنسان علماً بأنّ (السقمونيا)[1] تسهل الصفراء، على وجه يخالف في إفادته إفادة الاستقراء، فإنّ الاستقراء إمّا أن يكون مستوفى الأقسام وإمّا أن لا يوقع غير الظنّ الأغلب، والتجربة ليست كذلك … فنقول في جواب ذلك: إنّ التجربة ليست تفيد العلم لكثرة ما يشاهد على ذلك الحكم فقط، بل لاقتران قياس به قد ذكرناه»[2].

 

[1] جاء توصيفه في كتاب« القانون في الطبّ» لابن سينا 1: 593- 594 بأ نّه:« نبات له ثلاثة أغصان كبيرة … وله زهر أبيض مستدير أجوف، شبيه في شكله بالقرطالة، ثقيل الرائحة … إذا شرب منه المقدار المفرط- وهو نصف درهم- أمسك أوّلًا، ثمّ أكرب وغثّى وعرق عرقاً بارداً، ثمّ ربما انبعث إسهاله بإفراط، وهو قاتل. وأصل هذا النبات مسهل البطن …»( لجنة التحقيق)

[2] البرهان، لابن سينا: 46

50

أنّ الظاهرتين قد اقترنتا كثيراً، وتقوم بعد ذلك معلوماتنا العقليّة القبليّة بتقديم كبرى القياس، متمثّلة في ذلك المبدأ العقلي الذي ينفي أن يكون الاتفاق دائميّاً أو أكثريّاً، ويستنتج من ذلك أنّ ظاهرة (أ) سبب لظاهرة (ب). ولمّا كانت السببيّة هي الجسر الذي يبرّر الانتقال من الحالات الخاصّة إلى التعميم، فمن الطبيعي أن نصل إلى العلم الكامل بالقضيّة الكليّة.
وعلى هذا الضوء يتّضح أنّ الدليل الاستقرائي في المنطق الأرسطي يستبطن قياساً، فهو في الحقيقة دليل قياسي يسير من العامّ إلى الخاصّ، وليس دليلًا استقرائياً يسير من الخاصّ إلى العامّ.
ويسمّي المنطق الأرسطي هذا الدليل الاستقرائي- بما يستبطن من قياس- (تجربة). ويعتبر التجربة أحد مصادر المعرفة، ويؤمن بقيمتها المنطقيّة وإمكان قيام العلم على أساسها، خلافاً للاستقراء الناقص الذي يمثّل أحد عنصري التجربة ويعطي صغرى القياس المستبطن فيها. فالتمييز بين التجربة والاستقراء الناقص في المنطق الأرسطي يقوم على أساس أنّ الاستقراء الناقص مجرّد تعبير عددي عن الأمثلة التي لوحظت خلال الاستقراء، وأمّا التجربة فهي تتأ لّف من ذلك الاستقراء ومن مبدأ عقلي مسبق، يتكوّن منهما معاً قياس منطقي كامل.
ومن أجل هذا يمكن القول بأنّ المنطق الأرسطي يؤمن بالاستقراء الناقص كأساس للعلم، ويعتقد بأنّ المستقرئ بإمكانه التوصّل إلى التعميم عن طريق الاستقراء الناقص، ولكن لا دائماً، بل فيما إذا أمكن تطبيق ذلك المبدأ العقلي القبلي، الذي ينفي تكرّر الصدفة على تلك المجموعة من الأمثلة والشواهد التي شملها الاستقراء الناقص، إذ يتأ لّف عندئذٍ قياس منطقي كامل يستمدّ صغراه من‏

49

(الصدفة) لا يكون دائميّاً أو أكثريّاً، بمعنى أنّ أيّ شيئين ليست بينهما رابطة سببيّة، لا يتكرّر اقترانهما في جميع الأحيان، ولا في أكثر الأحيان.

وفي رأي المنطق الأرسطي: إنّ الدليل الاستقرائي بعد أن يحصل خلال الاستقراء الناقص على عدد كبير من الأمثلة، ينطلق من ذلك المبدأ العقلي، ويتّخذ الشكل القياسي في الاستدلال، فيقرّر: أنّ ظاهرة ألف، وظاهرة باء قد اقترنتا خلال الاستقراء في مرّات كثيرة[1]، وكلّما اقترنت ظاهرتان بكثرة، فإحداهما سبب للُاخرى؛ لأنّ الاتفاق لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً. ويستنتج من ذلك أنّ (أ) سبب ل (ب). وهذا استدلال قياسيّ بطبيعته؛ لأنّه يسير من العامّ إلى الخاصّ، وليس من نمط الاستدلال الاستقرائي، الذي يسير من الخاصّ إلى العامّ.

وإذا ثبت باستدلال قياسي يسير من العامّ إلى الخاصّ، أنّ بين الحرارة وتمدّد الحديد رابطة سببيّة، استطعنا أن نؤكّد أنّ الحديد يتمدّد كلّما تعرّض للحرارة؛ لأنّ المسبّب يوجد كلّما وجد سببه.

وهكذا نلاحظ أنّ الدور المباشر الذي يلعبه الاستقراء الناقص في رأي المنطق الأرسطي هو تقديم صغرى القياس، إذ يستخلص من الاستقراء الناقص‏

 

[1] ولا يخفى أنّ المقصود بظاهرة( ألف) هو القدر الملحوظ من خصائص تلك الظاهرة، والسببيّة المطلوب إثباتها هي السببيّة بين ظاهرة( ألف) بما فيها من الخصائص الظاهرة فحسب وبين ظاهرة( باء) لا مع ما قد يكون فيها من خصائص خفيّة، وإلّا لم يمكن إثبات التعميم بهذه السببيّة، إذ لو كانت هناك خصائص خفيّة دخيلة في السببيّة لم يمكن إثبات تحقّق المسبّب عند تحقّق تلك الظاهرة في غير الحالات التي امتدّ إليها الاستقراء، لأنّنا لا نعلم حينئذٍ تواجدَ تلك الخصائص الخفيّة في غير تلك الحالات حتّى نستطيع تعميم الحكم بتحقّق المسبّب( لجنة التحقيق)

48

الخصائص والمقوّمات الملحوظة، فهو صحيح في المنطق الأرسطي، ولكنّ هذا التعميم لا يقوم في رأيه على أساس مجرّد التجميع العددي للأمثلة والشواهد؛ لأنّ مجرّد التجميع العددي للأمثلة لا يبرهن على أنّ الظاهرتين المقترنتين في تلك الأمثلة والشواهد- خلال الاستقراء- مرتبطتان برابطة السببيّة. صحيح أنّ كلّ ظاهرة لا بدّ لها من سبب وفقاً للمبدأ العقلي القائل: إنّ لكلّ حادثة سبباً، ولكن ليس من الضروري إذا لاحظنا مجرّد التجميع العددي للأمثلة، أن تكون إحدى الظاهرتين المقترنتين هي السبب للظاهرة الاخرى؛ لأنّ اقترانهما كما يمكن أن يكون من أجل سببيّة إحداهما للُاخرى، كذلك يمكن أن يكون مجرّد صدفة، ويكون السبب شيئاً آخر غير ملحوظ لنا خلال الاستقراء. وإذا عجز التجميع العددي للأمثلة عن إثبات السببيّة بين الظاهرتين، فهو يعجز أيضاً عن إثبات التعميم، أي تأكيد أنّ إحدى الظاهرتين سوف تقترن بالاخرى دائماً، إذ ما دام من المحتمل أن يكون اقترانهما خلال الاستقراء صدفة، فليس من الضروري أن تتكرّر الصدفة في كلّ حين.
وهكذا يؤكّد المنطق الأرسطي: أنّ السببيّة بين الظاهرتين المقترنتين خلال الاستقراء، هي الجسر الذي ينقل المستقرئ‏من الحالات الخاصّة التي لاحظها في استقرائه إلى التعميم على كلّ الحالات. فمتى أمكننا أن نثبت سببيّة إحدى الظاهرتين المقترنتين للُاخرى خلال الاستقراء، اتيح لنا إثبات التعميم؛ لأنّ كلّ ظاهرة تقترن بسببها دائماً. ومجرّد التجميع العددي للأمثلة لا يتيح لنا عبور هذا الجسر وإثبات السببيّة.
ويعتقد المنطق الأرسطي: أنّ بإمكان المستقرئ إيجاد هذا الجسر وإثبات السببيّة، إذا لاحظ إلى جانب الأمثلة مبدأً عقليّاً يفترض المنطق الأرسطي وجوده في عقلنا بصورة مستقلّة عن الاستقراء والتجربة، وهو مبدأ يقول: أنّ الاتفاق: