کتابخانه
20

الاستقرائي، فإنّه لا يكفي لتبريره منطقياً مبدأ عدم التناقض، ولا يمكن على أساس هذا المبدأ تفسير القفزة التي يصطنعها الدليل الاستقرائي في سيره من الخاصّ إلى العامّ، وما تؤدّي إليه من ثغرة في تكوينه المنطقي.
ونحن في هذا الكتاب إذ نحاول إعادة بناء نظريّة المعرفة على أساس معيّن، ودراسة نقاطها الأساسيّة في ضوء يختلف عمّا تقدّم في كتاب (فلسفتنا) سوف نتّخذ من دراسة الدليل الاستقرائي ومعالجة تلك الثغرة فيه أساساً لمحاولتنا هذه.
وعلى هذا الأساس سوف نقسّم بحوث هذا الكتاب إلى أربعة أقسام:
القسم الأوّل: يشتمل على استعراض لموقف المذهب العقلي الذي يمثّله المنطق الأرسطي من الدليل الاستقرائي وطريقته في علاج الثغرة التي ألمحنا إليها. وفي هذا القسم نوضّح عجز المنطق الأرسطي عن إعطاء تفسير مقبول للدليل الاستقرائي ووضع أساس منطقي لتبرير تلك الثغرة فيه.
القسم الثاني: يشتمل على استعراض الموقف الذي اتّخذه المذهب التجريبي من الاستقراء ودراسته بمختلف اتجاهاته. وفي هذا القسم نوضّح أنّ المذهب التجريبي لا يمكنه أن يقدّم لنا التفسير الأساسي للدليل الاستقرائي.
والقسم الثالث: هو القسم الموسّع والأساس من الكتاب. وفي هذا القسم نفسّر الدليل الاستقرائي على أساس الاحتمال. ويشتمل هذا القسم على بحثين:
أوّلًا: البحث عن نظرية الاحتمال وصياغتها بالطريقة التي تجعلها صالحة لكي تكون أساساً للدليل الاستقرائي.
وثانياً: البحث في تفسير الدليل الاستقرائي على ضوء نظرية الاحتمال.
وهذا البحث يشتمل على فصلين:
الأوّل: في تطبيق نظريّة الاحتمال على المرحلة الاولى من الدليل‏

19

والاستقراء، واكتشف على هذا الأساس ثغرة في تركيب الدليل الاستقرائي، لا يوجد في الدليل الاستنباطي ما يماثلها.
ففي الاستنباط يرتكز استنتاج النتيجة من مقدّماتها- دائماً- على مبدأ عدم التناقض، ويستمدّ مبرّره المنطقي من هذا المبدأ؛ لأنّ النتيجة في حالات الاستنباط مساوية لمقدّماتها أو أصغر منها كما تقدّم، فمن الضروري أن تكون النتيجة صادقة إذا صدقت المقدّمات؛ لأنّ افتراض صدق المقدّمات دون النتيجة يستبطن تناقضاً منطقيّاً ما دامت النتيجة مساوية أو أصغر من مقدّماتها، أي مستبطنة بكامل حجمها في تلك المقدّمات.
وهكذا نجد أنّ الاستدلال الاستنباطي صحيح من الناحية المنطقيّة، وأنّ الانتقال فيه من المقدّمات إلى النتيجة ضروري على أساس مبدأ عدم التناقض.
وأمّا في حالات الاستقراء، فإنّ الدليل الاستقرائي يقفز من الخاصّ إلى العامّ؛ لأنّ النتيجة في الدليل الاستقرائي أكبر من مقدّماتها، وليست مستبطنة فيها.
فهو يقرّر في المقدّمات أنّ كميّة محدودة من قطع الحديد لوحظ تمدّدها بالحرارة، ويخرج من ذلك بنتيجة عامّة، وهي أنّ كلّ حديد يتمدّد بالحرارة.
وهذا الانتقال من الخاصّ إلى العامّ لا يمكن تبريره على أساس مبدأ عدم التناقض، كما رأينا في حالات الدليل الاستنباطي؛ لأنّ افتراض صدق المقدّمات وكذب النتيجة لا يستبطن تناقضاً، فبالإمكان أن نفترض أنّ تلك الكميّة المحدودة من القطع الحديديّة قد تمدّدت بالحرارة فعلًا، ونفترض في نفس الوقت أنّ التعميم الاستقرائي القائل: إنّ كلّ حديد يتمدّد بالحرارة، خطأ، دون أن نقع في تناقض منطقي؛ لأنّ هذا التعميم غير مستبطن في الافتراض الأوّل.
وهكذا نعرف أنّ منهج الاستدلال في الدليل الاستنباطي منطقيّ، ويستمدّ مبرّره من مبدأ عدم التناقض. وخلافاً لذلك منهج الاستدلال في الدليل‏

18

الاستنباطي.
وفي قولنا الثاني، استنتجنا أنّ الحيوان- أيّ حيوان- يموت بطريقة استنباطيّة. وهذه النتيجة مساوية للمقدّمة التي ساهمت في تكوين الدليل عليها، القائلة: الصامت يموت، والناطق يموت؛ لأنّ الصامت والناطق هما كلّ الحيوان بموجب المقدّمة الاخرى القائلة: الحيوان إمّا صامت وإمّا ناطق.
ونريد بالاستقراء: كلّ استدلال تجي‏ء النتيجة فيه أكبر من المقدّمات التي ساهمت في تكوين ذلك الاستدلال، فيقال مثلًا: «هذه القطعة من الحديد تتمدّد بالحرارة، وتلك تتمدّد بالحرارة، وهذه القطعة الثالثة تتمدّد بالحرارة أيضاً، إذن كلّ حديد يتمدّد بالحرارة». وهذه النتيجة أكبر من المقدّمات؛ لأنّ المقدّمات لم تتناول إلّاكميّة محدودة من قطع الحديد: ثلاثة أو أربعة … أو ملايين، بينما النتيجة تناولت كلّ حديد وحكمت أ نّه يتمدّد بالحرارة، وبذلك شملت القِطع الحديديّة التي لم تدخل في المقدّمات ولم يجر عليها الفحص.
ومن أجل هذا يعتبر السير الفكري في الدليل الاستقرائي معاكساً للسير في الدليل الاستنباطي الذي يصطنع الطريقة القياسيّة، فبينما يسير الدليل الاستنباطي- وفق الطريقة القياسيّة- من العامّ إلى الخاص عادة، يسير الدليل الاستقرائي- خلافاً لذلك- من الخاصّ إلى العام.
ومنذ بدأ الإنسان يدرس مناهج الاستدلال والتفكير ويحاول تنظيمها منطقيّاً، طرح على نفسه السؤال التالي:
هب أنّ المقدّمات التي تقرّرها في الدليل الاستنباطي أو الدليل الاستقرائي، صحيحة حقّاً فكيف يتاح لك أن تخرج منها بنتيجة، وتتّخذ من تلك المقدّمات سبباً كافياً لتبرير الاعتقاد بهذه النتيجة؟
وقد أدرك الإنسان لدى مواجهة هذا السؤال، فارقاً أساسيّاً بين الاستنباط

17

[كلمة المؤلّف:]

هذا الكتاب‏

يقسّم الاستدلال الذي يمارسه الفكر البشري عادةً إلى قسمين رئيسيّين:
أحدهما: الاستنباط، والآخر: الاستقراء. ولكلّ من الدليل الاستنباطي والدليل الاستقرائي منهجه الخاصّ وطريقه المتميّز.
ونريد بالاستنباط: كلّ استدلال لا تكبر نتيجته المقدّمات التي تكوّن منها ذلك الاستدلال. ففي كلّ دليل استنباطي تجي‏ء النتيجة دائماً مساوية أو أصغر من مقدّماتها، فيقال مثلًا: محمّد إنسان، وكلّ إنسان يموت، فمحمّد يموت. ويقال أيضاً: الحيوان إمّا صامت وإمّا ناطق، والصامت يموت، والناطق يموت، فالحيوان يموت.
ففي قولنا الأوّل، استنتجنا أنّ محمّداً يموت بطريقة استنباطيّة، وهذه النتيجة أصغر من مقدّماتها؛ لأنّها تخصّ فرداً من الإنسان وهو محمّد، بينما المقدّمة القائلة: كلّ إنسان يموت تشمل الأفراد جميعاً. وبذلك يتّخذ التفكير في هذا الاستدلال طريقه من العامّ إلى الخاصّ، فهو يسير من الكلّي إلى الفرد، ومن المبدأ العامّ إلى التطبيقات الخاصّة.
ويطلق المنطق الأرسطي على الطريقة التي انتهجها الدليل الاستنباطي في هذا المثال اسم القياس، ويعتبر الطريقة القياسيّة هي الصورة النموذجيّة للدليل‏

16

15

الاسس المنطقيّة للاستقراء

الاستقراء والمذهب العقلي للمعرفة.
الاستقراء والمذهب التجريبي للمعرفة.
الاستقراء والمذهب الذاتي للمعرفة.
المعرفة البشريّة في ضوء المذهب الذاتي.

14

في مقدّمة الكتاب.
4- ولأجل حفظ الأمانة العلميّة لا بدّ لنا أن نشير إلى التصرّف الذي أدخلته لجنة التحقيق في أحد الرموز المستخدمة في الكتاب بحسب الطبعة الاولى، وهو النون المحوّلة إلى جهة اليسار () أو المقلوبة إلى الأسفل تماماً () فقد ارتأت اللجنة تحويلها إلى حرف نون المتعارفة (ن) بعد التأكّد من عدم تأثير ذلك على المعنى المنظور بهذا الرمز في جميع الموارد المستخدم فيها.
هذا، ولا يفوتنا أن نشيد بالموقف النبيل لورثة الشهيد كافّة، سيّما نجله البارّ (سماحة الحجّة السيّد جعفر الصدر حفظه اللَّه) في دعم المؤتمر وإعطائهم الإذن الخاصّ في نشر وإحياء التراث العلمي للشهيد الصدر قدس سره.
وأخيراً نرى لزاماً علينا أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى اللجنة المشرفة على تحقيق تراث الإمام الشهيد، والعلماء والباحثين كافّة الذين ساهموا في إعداد هذا التراث وعرضه بالاسلوب العلمي اللائق، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يتقبّل جُهدهم، وأن يمنّ عليهم وعلينا جميعاً بالأجر والثواب، إنّه سميع مجيب.

المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر قدس سره‏
أمانة الهيئة العلميّة

13

العلميّة القيّمة على هذا الكتاب، التي تستهدف- في الغالب- تلبية الحاجات الضروريّة لتوضيح ما جاء ذكره في متن الكتاب، أو لتحصيل مفادٍ علميٍّ جديد، وبعضها يحمل طابع النقد والنقاش أيضاً، وقد وردت هذه التعليقات في هامش الكتاب مذيّلةً باسم (الحائري) تمييزاً لها عن الهوامش الصادرة من المؤلّف نفسه التي ذُيّلت باسم (المؤلّف قدس سره).
وقد استعانت لجنة التحقيق بسماحته أيضاً في تشخيص جملةٍ من الأخطاء الواقعة في الطبعة الاولى من غير ما جاء ذكره في جدول الخطأ والصواب المطبوع في حياة المؤلّف قدس سره، فجزاه اللَّه عن ذلك خير الجزاء.
2- اضيفت تعليقات علميّة اخرى في هامش الكتاب مذيّلةً باسم (لجنة التحقيق) في مواردَ عديدةٍ استجابةً للحاجة الضروريّة فيها إلى التوضيح والتبسيط حسب تشخيص اللجنة، ومن أهمّها التعليقات التي وُضعت- بالاسم المذكور- في بحث نظريّة (برنولي) الذي هو من أدقّ الأبحاث العلميّة في نظريّة الاحتمال، وذلك لتوضيح مراحل البحث المطروح في هذه النظريّة، وتقسيم كلّ مرحلةٍ منها إلى عدّة خطوات، لتسهيل الأمر على الباحثين.
3- تمّ تنظيم العناوين الرئيسيّة لأقسام الكتاب وفصوله- خصوصاً في القسم الثالث الذي هو القسم الموسّع والأساس منه- على طبق التقسيمات الواردة لمحتويات الكتاب في المقدّمة التي وضعها المؤلّف نفسه قدس سره، رغم أنّ تنظيمها الشكلي في الطبعة الاولى- وفي باقي الطبعات أيضاً- لا يتطابق تماماً مع ما جاء في تلك التقسيمات، فما يراه القارئ الكريم في هذه الطبعة من تغيير وتفاوت في هذا المجال عن ما جاء في الطبعات السابقة إنّما ينبع من اهتمام لجنة التحقيق وحرصها على إيجاد التطابق الفنّي بين عناوين الفصول وبين التقسيمات الواردة

12

بضمّها أخطاءَ كثيرةً اخرى إلى تلك الأخطاء[1].

ونحن إذا ضممنا كثرةَ الأخطاء هذه إلى ما أشرنا إليه من المستوى العلمي الرفيع لهذا الكتاب، والتفتنا أيضاً إلى أنّ كثيراً من الأخطاء لا يمكن تشخيصه إلّا بالفهم الدقيق للمعنى المراد بالعبارة، فسنعرف بذلك مدى خطورة التحقيق في هذا الكتاب، خصوصاً مع كثرة ما فيه من المعادلات الرياضيّة المبنيّة على لغة الرموز، والتي تستغرق جهوداً مضاعفة في مجال الضبط والتحقيق.

ولهذا قامت لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر قدس سره- بالإضافة إلى الجهود العامّة التي تبذلها في تحقيق جميع مؤلّفات هذا الإمام الشهيد رحمه الله- باهتمامٍ خاصٍّ بهذا الكتاب وعنايةٍ خاصّةٍ في تحقيقه.

ونحن حين نضع حصيلة الجهود المكثّفة والعناية الخاصّة المبذولة في المجال المذكور، بين يدي أرباب الفضيلة من قرّاء هذا الكتاب، نسترعي انتباهَهم إلى ما نعتقد ضرورة التفاتهم إليه في هذا المجال:

1- تمّت الاستفادة في مجال تحقيق هذا الكتاب- بقدر ما أمكن- من سماحة آية اللَّه السيّد كاظم الحسيني الحائري (حفظه اللَّه) الذي هو من أبرز تلامذة المؤلّف قدس سره، وكان مشاركاً له في معاناة اكتشاف الاسس المنطقيّة للاستقراء، كما صرّح به المؤلّف في إحدى رسائله الخطّية[2]، وقد أتحفنا بتعليقاته‏

 

[1] من قبيل ما وقع في طبعة« دار التعارف» من سقط ثلاثة أسطر كاملة من نهاية صفحة 193، والانتقال الغريب الحاصل لسطرٍ كامل من بداية صفحة 239 إلى أوّل صفحة 149، وغير ذلك

[2] شهيد الامّة وشاهدها 1: 152، الوثيقة 18