کتابخانه
52

الاشتراكي وإن كان يلغي الملكية الخاصّة لوسائل الانتاج، غير أ نّه لا يلغي إدارتها الخاصّة من قِبل هيئات الجهاز الحاكم الذي يمارس دكتاتورية البروليتاريا، ويحتكر الإشراف على جميع وسائل الانتاج وإدارتها؛ إذ ليس من المعقول أن تدار وسائل الانتاج في لحظة تأميمها إدارة جماعية اشتراكية من قِبل أفراد المجتمع كافّة. فالنظام الاشتراكي يحتفظ- إذن- بظواهر فردية بارزة، ومن الطبيعي لهذه الظواهر الفرديّة أن تحافظ على الدافع الذاتي، وتعكسه في المحتوى الداخلي للإنسان باستمرار، كما كانت تصنع ظاهرة الملكية الخاصّة.
وهكذا نعرف قيمة السبيل الأوّل لحلّ المشكلة- السبيل الشيوعي- الذي يعتبر إلغاء تشريع الملكية الخاصّة ومحوها من سجلّ القانون كفيلًا وحده بحلّ المشكلة وتطوير الإنسان.
وأمّا السبيل الثاني- الذي مرّ بنا- فهو الذي سلكه الإسلام؛ إيماناً منه بأنّ الحلّ الوحيد للمشكلة تطوير المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة. فلم يبتدر إلى مبدأ الملكية الخاصّة ليبطله، وإنّما غزا المفهوم المادّي عن الحياة، ووضع للحياة مفهوماً جديداً، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد، بل وضع لكلّ منهما حقوقه، وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادّية معاً. فالإسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من أنظمة، فمحاها محواً ينسجم مع الطبيعة الإنسانية؛ فإنّ نقطة الارتكاز الأساسية لما ضجّت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي هي: النظرة المادّية إلى الحياة التي نختصرها بعبارة مقتضبة في افتراض حياة الإنسان في الدنيا هي كلّ ما في الحساب من شي‏ء، وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكلّ فعّالية ونشاط.

51

وفي المحتوى الداخلي للإنسان، فتنقلب مشاعره الفردية إلى مشاعر جماعية، ويتحوّل حبّه لمصالحه ومنافعه الخاصّة إلى حبّ لمنافع الجماعة ومصالحها، وفقاً لقانون التوافق بين حالة الملكية الأساسية، ومجموع الظواهر الفوقية التي تتكيّف بموجبها.
والواقع: أنّ هذا المفهوم الماركسي لحبّ الذات، يقدِّر العلاقة بين الواقع الذاتي (غريزة حبّ الذات)، وبين الأوضاع الاجتماعية بشكل مقلوب. وإلّا فكيف نستطيع أن نؤمن بأنّ الدافع الذاتي وليد الملكية الخاصّة والتناقضات الطبقية التي تنجم عنها؟! فإنّ الإنسان لو لم يكن يملك سلفاً الدافع الذاتي، لما أوجد هذه التناقضات، ولا فكّر في الملكية الخاصّة والاستئثار الفردي.
ولماذا يستأثر الإنسان بمكاسب النظام، ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين ما دام لا يحسّ بالدافع الذاتي في أعماق نفسه؟!
فالحقيقة: أنّ المظاهر الاجتماعية للأنانية في الحقل الاقتصادي والسياسي لم تكن إلّانتيجة للدافع الذاتي لغريزة حبّ الذات. فهذا الدافع أعمق منها في كيان الإنسان، فلا يمكن أن يزول وتقتلع جذوره بإزالة تلك الآثار؛ فإنّ عملية كهذه لا تعدو أن تكون استبدالًا لآثار باخرى قد تختلف في الشكل والصورة، لكنّها تتّفق معها في الجوهر والحقيقة.
أضف إلى ذلك: أ نّنا لو فسّرنا الدافع الذاتي (غريزة حبّ الذات) تفسيراً موضوعياً- بوصفه انعكاساً لظواهر الفردية في النظام الاجتماعي، كظاهرة الملكية الخاصّة- كما صنعت الماركسية، فلا يعني هذا أنّ الدافع الذاتي سوف يفقد رصيده الموضوعي وسببه من النظام الاجتماعي بإزالة الملكية الخاصّة؛ لأنّها وإن كانت ظاهرة ذات طابع فردي، ولكنّها ليست هي الوحيدة من نوعها، فهناك- مثلًا- ظاهرة الإدارة الخاصّة التي يحتفظ بها حتّى النظام الاشتراكي؛ فإنّ النظام‏

50

العامّة ومصلحة المجموع؛ فإنّ غريزة حبّ الجماعة تكون ضامنة- حينئذٍ- للسعي وراء مصالحها وتحقيق متطلّباتها بطريقة ميكانيكية واسلوب آلي.
والسبيل الآخر الذي يمكن للعالَم سلوكه لدرء الخطر عن حاضر الإنسانية ومستقبلها هو: ان يطوّر المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة، وبتطويره تتطوّر طبيعياً أهدافها ومقاييسها، وتتحقّق المعجزة- حينئذٍ- من أيسر طريق.
والسبيل الأوّل هو الذي يحلم أقطاب الشيوعيين بتحقيقه للإنسانية في مستقبلها، ويَعِدون العالم بأ نّهم سوف ينشؤونها إنشاءً جديداً، يجعلها تتحرّك ميكانيكياً إلى خدمة الجماعة ومصالحها. ولأجل أن يتمّ هذا العمل الجبّار يجب أن نوكل قيادة العالم إليهم، كما يُوكل أمر المريض إلى الجرّاح، ويُفوَّض إليه تطبيبه وقطع الأجزاء الفاسدة منه، وتعديل المعوّج منها. ولا يعلم أحدٌ كم تطول هذه العملية الجراحية التي تجعل الإنسانية تحت مبضع جرّاح. وإنّ استسلام الإنسانية لذلك لهو أكبر دليل على مدى الظلم الذي قاسته في النظام الديمقراطي الرأسمالي، الذي خدعها بالحرّيات المزعومة، وسلب منها أخيراً كرامتها، وامتصّ دماءها؛ ليقدّمها شراباً سائغاً للفئة المدلّلة التي يمثّلها الحاكمون.
والفكرة في هذا الرأي القائل بمعالجة المشكلة عن طريق تطوير الإنسانية وإنشائها من جديد ترتكز على مفهوم الماركسية عن حبّ الذات؛ فإنّ الماركسية تعتقد أنّ حبّ الذات ليس ميلًا طبيعياً وظاهرة غريزية في كيان الإنسان، وإنّما هو نتيجة للوضع الاجتماعي القائم على أساس الملكية الفردية؛ فإنّ الحالة الاجتماعية للملكية الخاصّة هي التي تكوّن المحتوى الروحي والداخلي للإنسان، وتخلق في الفرد حبّه لمصالحه الخاصّة ومنافعه الفردية. فإذا حدثت ثورة في الاسس التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي، وحلّت الملكية الجماعية والاشتراكية محلّ الملكية الخاصّة، فسوف تنعكس الثورة في كلّ أرجاء المجتمع‏

49

بلا عوض. وما دامت المصلحة المادّية هي القوّة المسيطرة بحكم مفاهيم الحياة المادّية، فسوف تستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس، وسوف يُعرَّض المجتمع لأشكال من الخطر والاستغلال.
فالخطر على الإنسانية يكمن كلّه في تلك المفاهيم المادّية، وما ينبثق عنها من مقاييس للأهداف والأعمال. وتوحيد الثروات الرأسمالية- الصغيرة أو الكبيرة- في ثروة كبرى يُسلَّم أمرها للدولة من دون تطوير جديد للذهنية الإنسانية، لا يدفع ذلك الخطر، بل يجعل من الامّة جميعاً عمّال شركة واحدة، ويربط حياتهم وكرامتهم بأقطاب تلك الشركة وأصحابها.
نعم، إنّ هذه الشركة تختلف عن الشركة الرأسمالية في أنّ أصحاب تلك الشركة الرأسمالية هم الذين يملكون أرباحها، ويصرفونها في أهوائهم الخاصّة.
وأمّا أصحاب هذه الشركة فهم لا يملكون شيئاً من ذلك في مفروض النظام، غير أنّ ميادين المصلحة الشخصية لا تزال مفتوحة، والفهم المادّي للحياة- الذي يجعل من تلك المصلحة هدفاً ومبرِّراً- لا يزال قائماً.

كيف تعالج المشكلة؟

والعالم أمامه سبيلان إلى دفع الخطر وإقامة دعائم المجتمع المستقرّ:
أحدهما- أن يبدّل الإنسان غير الإنسان، أو تخلق فيه طبيعة جديدة تجعله يضحّي بمصالحه الخاصّة، ومكاسب حياته المادّية المحدودة في سبيل المجتمع ومصالحه، مع إيمانه بأ نّه لا قيم إلّاقيم تلك المصالح المادّية، ولا مكاسب إلّا مكاسب هذه الحياة المحدودة. وهذا إنّما يتمّ إذا انتزع من صميم طبيعته حبّ الذات، وابدل بحبّ الجماعة، فيولد الإنسان وهو لا يحبّ ذاته إلّاباعتبار كونه جزءاً من المجتمع، ولا يلتذّ لسعادته ومصالحه إلّابما أ نّها تمثّل جانباً من السعادة

48

رأسمالية كاملة.
أفَتَرى أنّ المشكلة تُحلّ حلًاّ حاسماً إذا رفضنا مبدأ الملكيّة الخاصّة، وأبقينا تلك المفاهيم المادّية عن الحياة، كما حاول اولئك المفكّرون؟!
وهل يمكن أن ينجو المجتمع من مأساة تلك المفاهيم بالقضاء على الملكية الخاصّة فقط، ويحصل على ضمان لسعادته واستقراره؟! مع أنّ ضمان سعادته واستقراره يتوقّف إلى حدٍّ بعيد على ضمان عدم انحراف المسؤولين عن مناهجهم وأهدافهم الإصلاحية في ميدان العمل والتنفيذ، والمفروض في هؤلاء المسؤولين أ نّهم يعتنقون نفس المفاهيم المادّية الخالصة عن الحياة التي قامت عليها الرأسمالية، وإنّما الفرق: أنّ هذه المفاهيم أفرغوها في قوالب فلسفية جديدة، ومن الفرض المعقول الذى يتّفق في كثير من الأحايين، أن تقف المصلحة الخاصّة في وجه مصلحة المجموع، وأن يكون الفرد بين خسارة وألم يتحمّلهما لحساب الآخرين، وبين ربح ولذّة يتمتّع بهما على حسابهم، فماذا تقدّر للُامّة وحقوقها وللمذهب وأهدافه من ضمان في مثل هذه اللحظات الخطيرة التي تمرّ على الحاكمين؟! والمصلحة الذاتية لا تتمثّل فقط في الملكية الفردية، ليقضى على هذا الفرض الذي افترضناه بإلغاء مبدأ الملكية الخاصّة، بل هي تتمثّل في أساليب، وتتلوّن بألوان شتّى. ودليل ذلك ما أخذ يكشف عنه زعماء الشيوعية اليوم من خيانات الحاكمين السابقين، والتوائهم على ما يتبنّون من أهداف.
إنّ الثروة تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظلّ الاقتصاد المطلق والحرّيات الفردية، وتتصرّف فيها بعقليّتها المادّية تُسلَّم- عند تأميم الدولة لجميع الثروات، وإلغاء الملكية الخاصّة- إلى نفس جهاز الدولة المكوّن من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادّية عن الحياة، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصية بحكم غريزة حبّ الذات، وهي تأبى أن يتنازل الإنسان عن لذّة ومصلحة

47

جزءٌ من كيانه الخاصّ.
وهذه الاستعدادات التي تهيّئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوّعة، تختلف في درجاتها عند الأشخاص، وتتفاوت في مدى فعليّتها باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثّر فيه. فبينما نجد أنّ بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعية، كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلًا، نجد أنّ ألواناً اخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان، وتظلّ تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتّحها. وغريزة حبّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً، تحدّد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات.
فهي تدفع إنساناً إلى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع إنساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه؛ لأنّ استعداد الإنسان الأوّل للالتذاذ بالقيم الخُلُقية والعاطفية الذي يدفعه إلى الإيثار كان كامناً، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته. بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية، فأصبح يلتذّ بالقيم الخُلُقية والعاطفية، ويضحّي بسائر لذّاته في سبيلها.
فمتى أردنا أن نغيّر من سلوك الإنسان شيئاً، يجب أن نغيّر من مفهوم اللذّة والمنفعة عنده، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العامّ لغريزة حبّ الذات.
فإذا كانت غريزة حبّ الذات بهذه المكانة من دنيا الإنسان، وكانت الذات في نظر الإنسان عبارة عن طاقة مادّية محدودة، وكانت اللذّة عبارة عمّا تهيّئه المادّة من متع ومسرّات، فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بأنّ مجال كسبه محدود، وأنّ شوطه قصير، وأنّ غايته في هذا الشوط أن يحصل على مقدار من اللذّة المادّية. وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصب الحياة المادّية وهو: المال الذي يفتح أمام الإنسان السبيل إلى تحقيق كلّ أغراضه وشهواته.
هذا هو التسلسل الطبيعي في المفاهيم المادّية الذي يؤدّي إلى عقلية

46

وحبّ الذات هو الغريزة التي لا نعرف غريزة أعمّ منها وأقدم، فكلّ الغرائز فروع هذه الغريزة وشعبها بما فيها غريزة المعيشة. فإنّ حبّ الإنسان ذاته- الذي يعني: حبّه للذّة والسعادة لنفسه، وبغضه للألم والشقاء لذاته- هو الذي يدفع الإنسان إلى كسب معيشته وتوفير حاجياته الغذائية والمادّية. ولذا قد يضع حدّاً لحياته بالانتحار إذا وجد أنَّ تحمُّل ألم الموت أسهل عليه من تحمُّل الآلام التي تزخر بها حياته.
فالواقع الطبيعي الحقيقي- إذن- الذي يكمن وراء الحياة الإنسانية كلّها، ويوجّهها بأصابعه هو: حبّ الذات الذي نعبِّر عنه بحبّ اللذّة وبغض الألم.
ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمّل مختاراً مرارة الألم دون شي‏ء من اللذّة، في سبيل أن يلتذّ الآخرون ويتنعّموا، إلّاإذا سُلبت منه إنسانيّته، واعطي طبيعة جديدة لا تتعشَّق اللذّة، ولا تكره الألم.
وحتّى الألوان الرائعة من الإيثار التي نشاهدها في الإنسان، ونسمع بها عن تأريخه تخضع في الحقيقة- أيضاً- لتلك القوّة المحرِّكة الرئيسية: (غريزة حبّ الذات). فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحّي في سبيل بعض المثل والقيم، ولكنّه لن يقدم على شي‏ء من هذه البطولات ما لم يحسّ فيها بلذّة خاصّة، ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن إيثاره لولده وصديقه، أو تضحيته في سبيل مثل من المثل التي يؤمن بها.
وهكذا يمكننا أن نفسّر سلوك الإنسان بصورة عامّة في مجالات الأنانية والإيثار على حدٍّ سواء. ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوّعة:
مادّية كالالتذاذ بالطعام والشراب، وألوان المتعة الجنسية وما إليها من اللذائذ المادّية. أو معنوية كالالتذاذ الخُلُقي والعاطفي بقيم خُلُقية أو أليف روحيٍّ أو عقيدة معيّنة، حين يجد الإنسان أنّ تلك القيم أو ذلك الأليف أو هذه العقيدة

45

[الإسلام والمشكلة الاجتماعيّة]

التعليل الصحيح للمشكلة:

ولأجل أن نصل إلى الحلقة الاولى في تعليل المشكلة الاجتماعية، علينا أن نتساءل عن تلك المصلحة المادّية الخاصّة التي أقامها النظام الرأسمالي مقياساً ومبرِّراً وهدفاً وغاية، نتساءل: ما هي الفكرة التي صحَّحت هذا المقياس في الذهنية الديمقراطية الرأسمالية وأوحت به؟ فإنّ تلك الفكرة هي الأساس الحقيقيّ للبلاء الاجتماعي وفشل الديمقراطية الرأسمالية في تحقيق سعادة الإنسان وتوفير كرامته. وإذا استطعنا أن نقضي على تلك الفكرة فقد وضعنا حدّاً فاصلًا لكلّ المؤامرات على الرفاه الاجتماعي، والالتواءات على حقوق المجتمع وحرّيته الصحيحة، ووفِّقنا إلى استثمار الملكية الخاصّة لخير الإنسانية ورقيّها وتقدّمها في المجالات الصناعية وميادين الانتاج.
فما هي تلك الفكرة؟
إنّ تلك الفكرة تتلخّص في التفسير المادّي المحدود للحياة الذي أشاد عليه الغرب صرح الرأسمالية الجبّار؛ فإنّ كلّ فرد في المجتمع إذا آمن بأنّ ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو: حياته المادّية الخاصّة، وآمن- أيضاً- بحرّيته في التصرّف بهذه الحياة واستثمارها، وأ نّه لا يمكن أن يكسب من هذه الحياة غاية إلّااللذّة التي توفِّرها له المادّة، وأضاف هذه العقائد المادّية إلى حبّ الذات الذي هو من صميم طبيعته، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليّون، وينفِّذ أساليبهم كاملة، ما لم تحرمه قوّة قاهرة من حريّته، وتسدّ عليه السبيل.

44

بلا إنتاج ولا عمل، ولا هو الذي يدفعه إلى شراء جميع البضائع الاستهلاكية من الأسواق؛ ليحتكرها ويرفع بذلك من أثمانها، ولا هو الذي يفرض عليه فتح أسواق جديدة، وإن انتهكت بذلك حرّيات الامم وحقوقها، وضاعت كرامتها وحرّيتها.
كلّ هذه المآسي المروعة لم تنشأ من الملكيّة الخاصّة، وإنّما هي وليدة المصلحة المادّية الشخصية التي جعلت مقياساً للحياة في النظام الرأسمالي، والمبرّر المطلق لجميع التصرّفات والمعاملات. فالمجتمع حين تقام اسسه على هذا المقياس الفردي والمبرِّر الذاتي، لا يمكن أن يُنتظَر منه غير ما وقع؛ فإنّ من طبيعة هذا المقياس تنبثق تلك اللعنات والويلات على الإنسانية كلّها، لا من مبدأ الملكية الخاصّة، فلو ابدل المقياس، ووضعت للحياة غاية جديدة مهذّبة تنسجم مع طبيعة الإنسان، لتحقَّق بذلك العلاج الحقيقي للمشكلة الإنسانية الكبرى.