کتابخانه
154

الواقع الموضوعي المستقلّ هل هو المادّة أو القوّة أو الحركة أو الموج الكهربائي …
فذلك سؤال آخر يجب على الواقعية التي آمنت بالعالم الموضوعي أن تجيب عنه على ضوء العلم والاكتشافات التجريبية.
ومتى فرّقنا بين المسألتين تفريقاً تاماً استطعنا أن نردّ الاتّجاه المثالي السابق الذكر إلى الخطأ الذي يرتكز عليه.
فقد عرفنا أنّ السؤال الأوّل هو: هل للعالم واقع مستقلّ عن الذهن البشري؟
والإجابتان عن هذا السؤال هما للمثالية والواقعية. فالمثالية تجيب بالنفي والواقعية تجيب بالإثبات. وكلتا الإجابتين يجب ارتكازهما على أساس فلسفي بحت، ولا كلمة للعلم والتجربة في هذا الموضوع.
والسؤال الآخر: ما هو الواقع الموضوعي المستقلّ؟ وهل تلزمه خصائص المادّة وصفاتها أو لا؟ وهذا السؤال إنّما يتّجه إلى الواقعية، ولا مجال له على أساس المفهوم المثالي. ويجيب بعض الواقعيين عن هذا السؤال بإعطاء المفهوم المادّي للواقع الموضوعي المستقلّ، ويجيب الآخرون بإعطاء مفاهيم اخرى، وللعلم في هذه الإجابات كلمته، فالتجارب والكشوف العلمية هي التي تكوِّن المفهوم العلمي للواقعيين عن العالم الموضوعي.
فإذا أبطل العلم المفهوم المادّي للعالم، فهو لا يعني أنّ العلم رفض الواقعية وصار مثالياً؛ لأنّ الكشف العلمي لم يبرهن على عدم وجود الواقع الموضوعي المستقلّ، وإنّما دلّل على عدم لزوم الصفة المادّية له. فليكن مردّ العالم إلى القوّة أو إلى الحركة أو إلى أيّ شي‏ء آخر غير المادّة؛ فإنّ ذلك لا يضرّ بالواقعية، ولا يبرهن على المثالية ما دام لذلك الشي‏ء واقع موضوعي موجود بصورة مستقلّة عن الذهن والشعور، فالمادّة إذا تبخّرت كهرباء على ضوء العلم، والكتلة إذا تحوّلت إلى طاقة، والطاقة إذا تحوّلت إلى كتلة، والطبيعة إذا كانت تعبّر عن حركة

153

دقيقة- الشي‏ء نفسه الذي نضيفه إلى الكون ليصبح مفهوماً».

وأعرب بعد ذلك عن أمله في:

«أن يعرف في السنوات القريبة القادمة ما كان خبيئاً في النواة الذرّية رغم ما ينشأ في أذهاننا من ظنّ بأنّ هذا قد خبئ من قبلنا»[1].

والواقع: أنّ الاتّجاه المثالي عند هؤلاء الفيزيائيين ناتج عن خطأ في التفكير الفلسفي لا عن برهان فيزيائي في المجال العلمي؛ ذلك أنّ المسألة الأساسية في الفلسفة التي انقسم الفلاسفة في الجواب عنها إلى مثاليين وواقعيين بدت لهم مغلوطة.

فالمسألة الأساسية هي: مسألة ما إذا كان للعالم واقع موضوعي مستقلّ عن ذهننا وشعورنا، وقد فهمها اولئك الفيزيائيون على أ نّها لا تقبل سوى إجابتين على الوجه الآتي فقط:

إمّا أنّ مردّ العالم إلى الذهن والشعور، فلا وجود له بصورة موضوعية، وإمّا أنّ العالم واقع مادّي موجود خارج الذهن والشعور.

فإذا استبعدنا الإجابة الثانية بالبراهين والتجارب العلمية التي دلّت على أنّ المادّية ليست إلّاقناعاً للحقيقة التي ينطوي عليها العالم، لزمنا الأخذ بالإجابة الاولى والاعتقاد بالمفهوم المثالي البحت للعالم.

ولكنّ الحقيقة: أنّ الإجابتين لم توضعا وضعاً صحيحاً فيما سبق؛ ذلك أنّ تقديم إجابة تناقض الإجابة المثالية لا تحتّم علينا الإيمان بلزوم الصفة المادّية للواقع الموضوعي؛ فإنّ الواقعية التي تخالف المثالية بصورة متقابلة لا تعني أكثر من الاعتراف بوجود واقع موضوعي مستقلّ عن الذهن والشعور، وأمّا أنّ هذا

 

[1] لم نعثر عليه

152

فقد قال (اوزوالد):

«إنّ العصا التي تضرب (سكابان) لا تنهض على وجود العالم الخارجي، هذه العصا ليست موجودة، وليس موجوداً إلّاطاقتها الحركية»[1].

وقال (كارل بيرسون):

«المادّة هي اللامادّي الذي هو في حركة»[2].

وفي غمرة هذه الكشوف الجديدة- التي زعزعت الكيان المادّي وأظهرت أنّ المادّة هي الوهم البشري العامّ عن العالم، لا المفهوم العلمي المطابق للعالم- ظهر الاتّجاه المثالي في الفيزياء، واستهوى كثيراً من الفيزيائيين، فقالوا: ما دام العلم يُقدّم في كلّ يوم براهين جديدة ضدّ القيمة الموضوعية للمعرفة البشرية، وضدّ الصفة المادّية للعالم، فليست الذرّات أو البنيات الأساسية للمادّة- بعد أن تبخّرت على ضوء العلم- إلّاطُرُقاً مناسبة للتعبير عن الفكر، واستعارات وإشارات لا تتضمّن من الحقيقة الواقعية شيئاً.

قال ادينغتون:

«ليس ثَمَّة في منظومة قوانين علم الطبيعة كلّها شي‏ء واحد لا يمكن استنتاجه بوضوح من اعتبارات نظرية المعرفة الشاملة المطلقة وتأمّلاتها، والدماغ الذي يكون غير عالم بكوننا ولكنّه يعرف نظام التفكير الذي يفسّر بوساطته العقل البشري تجربته الحسّية، يكون بمقدوره أن يبلغ جميع معارف علم الطبيعة المحصّلة من طريق التجربة، وفي النهاية أقول: إنّ ما أدركه عن الكون هو- تماماً وبصورة صحيحة

 

[1] لم نعثر عليه

[2] لم نعثر عليه

151

عدّة مهام كانتشار الضوء الذي افترض الأثير حاملًا له عند انتقاله من بعض الأجسام إلى بعض، كما يحمل- أيضاً- الحرارة والكهرباء ونحوها من قوى الطبيعة.
ويتلخّص هذا العرض في أنّ الطبيعة واقع موضوعي مادّي يحكمه نظام آلي كامل.
ولم يستطع هذا المفهوم الفيزيائي أن يصمد للكشوف الحديثة التي فرضت على العلماء أن يقلبوا نظرياتهم عن الطبيعة رأساً على عقب، وبرهنت لهم على أنّ العقل العلمي لا يزال في البداية، وكان من أهمّ تلك الكشوف العلمية اكتشاف الكهارب الذي دلّ على وجود بنية مركّبة للذرّة واكتشاف انحلالها الإشعاعي.
فبينما كانت الذرّة هي الوحدة المادّية الأساسية التي تأتلف منها الطبيعة، عادت بدورها مركّبة، ولم تقف القصّة عند هذا الحدّ بل أصبح من الممكن أن تتبخّر كهرباء. وبينما كانت الحركة محدودة في حدود الحركات الميكانيكية التي تتّسق مع التفسير الآلي للطبيعة، اكتشفت ألوان اخرى من الحركة. وبينما كان الرأي السائد يزعم أنّ كتلة المادّة- وهي التعبير الرياضي عن الجوهر المادّي- دائمة وغير قابلة للتغيير، ثبت في البرهان العلمي أ نّها ليست ثابتة، بل هي نسبية ولا تعبّر في مفهومها الواقعي إلّاعن طاقة مكتنزة، ولذا تختلف كتلة الجسم باختلاف حركته.
وهكذا بدا للفيزيائيين واضحاً أنّ المادّية قد ماتت، وأنّ المفهوم المادّي للعالم أصبح يتعارض مع العلم والبراهين التجريبية.
ولأجل ذلك استطاع العلماء أن يكوّنوا عن العالم مفهوماً جوهرياً أعمق من المفهوم المادّي، وليست المادّية إلّاوجهاً من وجوه هذا المفهوم الجديد، بل ذهب بعض الفيزيائيين إلى أكثر من ذلك، فزعم أنّ مردّ العالم إلى حركة خالصة محاولًا الاستغناء عن إضافة أيّ حقيقة جوهرية إليها.

150

من مناقشاتنا للمثالية الفلسفية إلى أنّ الواقعية ترتكز على أساسين:
الأوّل- الإيمان بوجود كشف ذاتي للمعارف التصديقية.
الثاني- الاعتقاد بقاعدة أساسية للمعرفة البشرية مضمونة الصدق بصورة ضرورية.
وكلا هذين الأساسين قد وجدنا (باركلي) مضطرّاً إلى الاعتراف بهما؛ فإنّه لولا الكشف الذاتي للمعرفة التصديقية، لما عرف الأشخاص الآخرين، ولما كيّف حياته على أساس وجودهم، ولولا وجود معارف مضمونة الصدق في التفكير البشري، لما أمكنه أن يستدلّ على مزاعمه المثالية.

ب- المثالية الفيزيائية:

كانت الفيزياء قبل قرن من الزمان تُفسِّر الطبيعة تفسيراً واقعياً مادّياً تحكمه قوانين الميكانيك العامّة. فالطبيعة واقعية عند الفيزيائيين، بمعنى: أ نّها موجودة بصورة مستقلّة عن الذهن والشعور، وهي مادّية أيضاً؛ لأنّ مردّ الطبيعة في تحليلهم العلمي إلى جزئيات صلبة صغيرة لا تقبل التغيّر ولا الانقسام، وهي الجواهر المفردة التي نادى بها ديموقريطس في الفلسفة اليونانية. وهذه الجزئيات أو الكتل الأوّلية للطبيعة في حركة مستمرّة، فالمادّة هي مجموع تلك الجزئيات، والظاهرات الطبيعية فيها ناتجة عن انتقال تلك الكتل وحركتها في المكان.
ولمّا كانت هذه الحركة بحاجة إلى تفسير من العلم، فقد فسّرتها الفيزياء تفسيراً آليّاً كما تفسِّر الحركة في رقّاص الساعة أو الأمواج الصوتية، وافترض وجود قوىً في الكتل أو علاقات خاصّة بين تلك الكتل؛ لمحاولة تكميل التفسير الآلي لظواهر الطبيعة. وهذه القوى والعلاقات بدورها يجب أن تخضع للتفسير الآلي أيضاً، فنشأ من ذلك في الفيزياء المفهوم الفرضي ل (الأثير)، واسندت إليه‏

149

قد يقع فيها الخطأ.
فنحن- إذن- مهما شككنا لا نستطيع أن نشكّ في تلك القاعدة؛ لأنّها مضمونة الصدق بصورة ضرورية.
ونريد أن نتبيّن الآن ما إذا كان في وسع الفيلسوف المثالي (باركلي) أن ينكر تلك القاعدة المضمونة، ولا يقرّ بوجود معارف ضرورية فوق الخطأ والاشتباه أو لا؟
ولا شكّ في أنّ الجواب هو النفي؛ فإنّه مضطرّ إلى الاعتراف بوجود معارف مضمونة الصدق ما دام قد حاول الاستدلال على مثاليّته بالأدلّة السابقة؛ فإنّ الإنسان لا يمكنه أن يستدلّ على شي‏ء ما لم يركّز استدلاله على اصول وقواعد مضمونة الصدق عنده، ونحن إذا لاحظنا أدلّة (باركلي) وجدناه مضطرّاً إلى الاعتراف:
أوّلًا- بمبدأ عدم التناقض الذي ارتكز عليه الدليل الأوّل؛ فإنّ التناقض إذا كان ممكناً فلا يصحّ أن يستنتج من تناقض الإحساسات عدم موضوعيتها.
وثانياً- بمبدأ العلّية والضرورة، فهو لو لم يكن يعترف بهذا المبدأ لكان استدلاله عبثاً؛ لأنّ الإنسان إنّما يقيم دليلًا على رأيه لإيمانه بأنّ الدليل علّة ضرورية للعلم بصحّة ذلك الرأي. فإذا لم يكن يعتقد بمبدأ العلّية والضرورة جاز أن يكون الدليل صحيحاً، ومع ذلك لا يثبت به الرأي المطلوب.
وإذا ثبت وجود معارف مضمونة الصدق في التفكير البشري، فلا شكّ في أنّ من تلك المعارف معرفتنا بوجود العالم الموضوعي المستقلّ عنّا؛ فإنّ العقل يجد نفسه مضطرّاً إلى التصديق بوجود عالم خارجي على سبيل الإجمال ورفض كلّ شكّ في ذلك، مهما وقعت من مفارقات بين حسّه والواقع، أو بين فكره والحقيقة، بل يُعدّ التشكيك في وجود العالم المستقلّ ضرباً من الجنون. ونخلص‏

148

التصديقي، لمكان كشفه الذاتي، سواء أكان العلم مصيباً في الواقع أم مخطئاً، فإنّه علم وكشف على كلّ تقدير.
الدليل الرابع- أنّ المعارف التصديقية إذا كانت قد تخطئ، ولم يكن كشفها الذاتي يصونها عن ذلك، فلماذا لا يجوز أن تكون جميع معارفنا التصديقية خطأً؟! وكيف يمكننا أن نعتمد على الكشف الذاتي للعلم ما دام هذا الكشف صفة لازمة للعلم في موارد الخطأ والصواب على حدّ سواء؟!
وهذه المحاولة تختلف في هدفها عن المحاولة السابقة: ففي تلك المحاولة كانت تستهدف المثالية إلى اعتبار المعارف البشرية أشياء ذاتية لا تشقّ لنا الطريق إلى الواقع الموضوعي، وقد أحبطنا تلك المحاولة بإيضاح ما للمعارف التصديقية من كشف ذاتي تمتاز به على التصوّر الخالص. وأمّا هذه المحاولة فهي تقصد إزالة المعارف التصديقية نهائياً من التفكير البشري؛ لأنّها ما دامت قد تخطئ، أو ما دام كشفها الذاتي لا يعني صحّتها دائماً، فلماذا لا نشكّ فيها ونتخلّى عنها جميعاً؟! ولا يوجد لدينا بعد ذلك ما يضمن وجود العالم الموضوعي.
وبطبيعة الحال، أنّ التفكير البشري لو لم يكن يملك عدّة معارف مضمونة الصحّة بصورة ضرورية، لكان هذا الشكّ لازماً ولا مهرب عنه، ولما أمكننا أن نعلم بحقيقةٍ مهما كانت ما دام هذا العلم لا يستند إلى ضمان ضروري، وكان الخطأ محتملًا في كلّ مجال. ولكنّ الذي يقضي على هذا الشكّ هو المذهب العقلي- الذي درسناه في الجزء الأوّل من نظرية المعرفة (المصدر الأساسي للمعرفة)- فهو يقرّر وجود معارف ضرورية مضمونة الصحّة لا يقع فيها الخطأ مطلقاً، وإنّما يقع أحياناً في طريقة الاستنتاج منها. وعلى هذا تنقسم المعارف البشرية- كما سبق في تلك الدراسة- إلى معارف ضرورية مضمونة تتشكّل منها القاعدة الرئيسية للتفكير، ومعارف ثانوية تستنتج من تلك القاعدة، وهي التي‏

147

إلى الواقع الموضوعي عن طريق أفكارنا ما دمنا قد اعترفنا بأ نّها لا تملك كشفاً ذاتياً عن ذلك الواقع.

ولأجل أن نجيب على هذا الدليل يلزمنا أن نعرف ما هو معنى الكشف الذاتي للعلم؟ إنّ الكشف الذاتي للعلم معناه: أن يرينا متعلّقه ثابتاً في الواقع الخارج عن حدود إدراكنا وشعورنا: فعلمنا بأنّ الشمس طالعة وأنّ المثلّث غير المربّع يجعلنا نرى طلوع الشمس ومغايرة المثلّث للمربّع ثابتين في واقع مستقلّ عنّا، فهو يقوم بدور المرآة، وإراءته لنا ذلك هي كشفه الذاتي، وليس معنى هذه الإراءة: أنّ طلوع الشمس موجود في الخارج حقّاً، وأنّ مغايرة المثلّث للمربّع ثابتة في الواقع؛ فإنّ كون الشي‏ء ثابتاً في الواقع غير كونه مرئياً كذلك، وبذلك نعرف أنّ الكشف الذاتي للعلم لا يتخلّف عنه حتّى في موارد الخطأ والاشتباه، فإنّ علم القدماء بأنّ الشمس تدور حول الأرض كان له من الكشف الذاتي بمقدار ما لعلمنا بدوران الأرض حول الشمس من كشف، بمعنى: أ نّهم كانوا يرون دوران الشمس حول الأرض أمراً ثابتاً في الواقع بصورة مستقلّة عنهم، فوجود هذا الدوران بصورة موضوعية كان مرئياً لهم، أي: أ نّهم كانوا يصدِّقون بذلك وإن لم يكن ثابتاً في الواقع‏[1].

فالإنسان بطبيعته- إذن- يخرج من التصوّرية إلى الموضوعية بالعلم‏

 

[1] وبالتعبير الفلسفي المصطلح: أنّ التضايف القائم بين الكاشف وهو العلم، والمنكشف بالعرض وهو الشي‏ء الخارج عن حدود العلم، ليس ثابتاً بين وجود الكاشف ووجود المنكشف بالعرض، ليمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر، وإنّما هو بين الكاشفية الذاتية للعلم والمنكشفية بالعرض للشي‏ء الخارج عن حدود العلم، ومن الواضح: أنّ الأمرين متلازمان ولا يمكن انفكاكهما مطلقاً.( المؤلّف قدس سره)

146

وجود حقيقة موضوعية يحكي عنها إدراكك وشعورك.
وهكذا يتّضح: أنّ المعرفة التصديقية هي وحدها التي يمكن أن تردّ على حجّة (باركلي) القائلة: إنّا لا نتّصل بالواقع مباشرة، وإنّما نتّصل بأفكارنا، فلا وجود إلّالأفكارنا. فالنفس وإن كانت لا تتّصل مباشرة إلّابإدراكاتها، إلّاأنّ هناك لوناً من الإدراك يكشف بطبيعته كشفاً ذاتياً عن شي‏ء خارج حدود الإدراك وهو: الحكم، أي: المعرفة التصديقية. فحجّة (باركلي) كانت تقوم على الخلط بين التصوّر والتصديق، وعدم إدراك الفوارق الأساسية بينهما.
وعلى هذا الضوء نتبيّن أنّ المذهب التجريبي والنظرية الحسّية يؤدّيان إلى النزعة المثالية، فهما مضطرّان إلى قبول الحجّة التي قدّمها (باركلي)؛ لأنّ النفس البشرية بمقتضى هذين المبدأين لا تملك إدراكاً ضرورياً أو فطرياً مطلقاً، وإنّما تنشأ إدراكاتها جميعاً من الحسّ وترتكز معارفها عليه، والحسّ ليس إلّالوناً من ألوان التصوّر، فمهما كثر وتنوّع لا يعدو حدوده التصوّرية، ولا يمكن أن يخطو به الإنسان إلى الموضوعية خطوة واحدة.
الدليل الثالث- أنّ الإدراكات والمعارف البشرية إذا كانت لها خاصّة الكشف الذاتي عن مجال وراء حدودها، وجب أن تكون جميع العلوم والمعارف صحيحة؛ لأنّها كاشفة بحكم طبيعتها وذاتها، والشي‏ء لا يتخلّى عن وصفه الذاتي، مع أنّ جميع مفكّري البشرية يعترفون بأنّ كثيراً من المعلومات والأحكام التي لدى الناس هي إدراكات خاطئة ولا تكشف شيئاً من الواقع، بل قد يجمع العلماء على الاعتقاد بنظرية ما ويتجلّى بعد ذلك بكلّ وضوح أ نّها ليست صحيحة، فكيف يُفهَم هذا على ضوء ما تزعمه الفلسفة الواقعية: من أنّ العلم يتمتّع بالكشف الذاتي؟! وهل لهذه الفلسفة من مهرب إلّاالتنازل عن منح العلم هذه الصفة؟! وإذا تنازلت عن ذلك كانت المثالية أمراً محتماً؛ لأنّا لا نستطيع أن نصل- حينئذٍ-