کتابخانه
277

إلى تكميل النظرية العلمية السابقة بمفاهيم جديدة، تضاف إلى النظرية السالفة؛ ليتمّ بذلك تفسير موحّد للواقع التجريبي كلّه. وقد تكشف الدلائل العلمية عن خطأ النظرية السابقة، فتنهار ويعوّض عنها بنظرية اخرى على ضوء التجارب والمشاهدات.
وفي كلّ ذلك لا يمكن أن نفهم التطوّر العلمي فهماً ديالكتيكياً، أو أن نتصوّر الحقيقة كما يفترضها الجدل، تنمو وتتحرّك بموجب التناقضات المحتواة في داخلها، فتتّخذ في كلّ دور شكلًا جديداً، وهي في تلك الأشكال جميعاً حقيقة علمية متكاملة؛ فإنّ هذا بعيد كلّ البعد عن الواقع العلمي للتفكير البشري. بل الشي‏ء الذي يحدث في مجال التعديل العلمي، هو الظفر بحقائق جديدة تضاف إلى الحقيقة العلمية الثابتة، أو انكشاف خطأ النظرية السابقة، وصحّة فكرة اخرى لتفسير الواقع.
فمن قبيل الأوّل (الظفر بحقائق جديدة تضاف إلى الحقيقة العلمية الثابتة) ما وقع للنظرية الذرّية (نظرية أتميسم)، فإنّها كانت فرضية، ثمّ صارت قانوناً علمياً بموجب التجارب، وبعد ذلك استطاعت الفيزياء أن تتوصّل- على ضوء التجارب- إلى أنّ الذرّة ليست هي الوحدة الأوّلية في المادّة، بل هي تأتلف- أيضاً- من أجزاء. وهكذا كملت النظرية الذرّية بمفهوم علمي جديد عن النواة والكهارب التي تتركّب منها الذرّة، فلم تنمُ الحقيقة، وإنّما زادت الحقائق العلمية، والزيادة الكمّية غير النموّ الديالكتيكي والحركة الفلسفية في الحقيقة.
ومن قبيل الثاني (انكشاف خطأ النظرية السابقة وصحّة فكرة اخرى) ما حصل في قانون الجاذبية العامّة، أي: التفسير الميكانيكي الخاصّ للعالم في نظريات (نيوتن)، فإنّ هذا التفسير قد لوحظ عدم اتّفاقه مع عدّة من الظواهر الكهربائية والمغناطيسية، وعدم صلاحيّته لتفسير كيفية صدور النور وانتشاره،

276

على نسبة معيّنة. والنظرية القائلة: بأنّ مردّ اختلاف الأجسام في سرعة سقوطها إلى مقاومة الهواء، لا إلى اختلاف كتلتها، التي ولدت كحدس علمي، ثمّ استطاع العلم أن يوضّح صدقها بالتجارب التي اجريت على الأجسام المتنوّعة في مكان خالٍ من الهواء، فدلّت على أ نّها تشترك جميعاً في درجة معيّنة من السرعة. أقول:
إنّ هذه النظريات وآلاف النظريات الاخرى التي مرّت كلّها بالمرحلة التي أشرنا إليها من التطوّر، باجتيازها درجة الفرضية إلى درجة القانون، لا تعبّر في اجتيازها وتطوّرها هذا عن نموّ في نفس الحقيقة، بل عن الاختلاف في درجة التصديق العلمي بها. فالفكرة هي الفكرة، غير أ نّها نجحت في الامتحان العلمي، وانكشف لذلك أ نّها حقيقة، بعد أن كان مشكوكاً فيها.
ثمّ إنّ هذه النظرية بعد أن تحتلّ موضعها من القوانين العلمية، تأخذ مجالها في التطبيق، وتكسب صفتها كمرجع علمي لتفسير ظواهر الطبيعة التي تبدو لدى المشاهدة أو التجربة، واستكشاف حقائق وأسرار جديدة. ومهما استطاعت أن تستكشف مزيداً من الحقائق المجهولة، ثمّ تؤكّد التجربة بعد ذلك صحّة استكشافها، ازدادت رسوخاً ووضوحاً في الذهنية العلمية. ولذلك عُدّ من الانتصارات الكبرى لقانون الجاذبية العامّة، أن استكشف العلماء كوكب (نبتون) على ضوء قانون الجاذبية ومعادلاته الرياضية، ثمّ أيّدت وجوده المشاهدات العلمية بعدئذٍ. وهذا- أيضاً- ليس إلّالوناً من ألوان شدّة الوثوق العلمي بصحّة النظرية وصوابها.
ثمّ إن حالف التوفيق النظرية في المجال العلمي على طول الخطّ، ثبتت نهائياً. وأمّا إذا بدأت تضيق عن الانطباق على الواقع المدروس علمياً، بعد تدقيق الأجهزة والوسائل، وتعميق الملاحظة والفحص، فتبدأ النظرية عند ذاك مرحلة التعديل والتجديد، وفي هذه المرحلة قد تضطرّ المشاهدات والتجارب الجديدة

275

ومن الضروري لإيضاح ذلك أن نعطي فكرة عن سير التطوّر العلمي، واسلوب التدرّج والتكامل في النظريات والحقائق العلمية؛ لنتبيّن مدى الفرق بين ديالكتيك الفكر المزعوم من ناحية، والتطوّر التأريخي للعلوم البشرية من ناحية اخرى.
إنّ الحقيقة العلمية تبدأ باسلوب نظري، كافتراض بحت، يخطر على ذهن العالم الطبيعي بسبب عدّة من المعلومات السابقة، والمشاهدات العلمية أو البسيطة. فالفرضية هي المرحلة الاولى التي تمرّ بها النظرية العلمية في سيرها التطوّري، ثمّ يشرع العالم في بحث علمي، ودراسة تجريبية لتلك الفرضية، فيقوم بمختلف ألوان الفحص عن طريق المشاهدات العلمية الدقيقة والتجارب المتنوّعة في الحقل الذي يخصّ الفرضية، فإذا جاءت نتائج المشاهدات أو التجربة مؤيِّدة للفرضية، ومنسجمة مع طبيعتها وطبيعة آثارها، اكتسبت الفرضية طابعاً جديداً، وهو طابع القانون العلمي، وتدخل النظرية بذلك المرحلة الثانية من سيرها العلمي.
ولكن هذا التطوّر الذي ينقل النظرية من درجة الفرضية إلى درجة القانون، ليس معناه: أنّ الحقيقة العلمية أخذت بالنموّ والحركة، وإنّما معناه: أنّ فكرة معيّنة كان مشكوكاً فيها، فبلغت درجة الوثوق أو اليقين العلمي. فنظرية (باستور) عن الكائنات الحيّة الميكروبية التي وضعها على أساس حدسي، ثمّ أيّدتها المشاهدات الدقيقة بالوسائل العلمية الحديثة، ونظرية الجاذبية العامّة التي أثار افتراضها في ذهن (نيوتن) مشهد بسيط، مشهد سقوط تفّاحة على الأرض، جعله يتساءل: لماذا لا تكون القوّة التي جعلت التفّاجة تسقط على الأرض، هي بعينها التي تحفظ للقمر توازنه، وترسم له حركته؟ ثمّ أيّدت التجارب أو المشاهدات العلمية بعد ذلك تعميم الجاذبية للأجرام السماوية، واعتبارها قانوناً عاماً قائما

274

قال كيدروف:

«والحقيقة المطلقة الناتجة من حقائق نسبية، هي حركة تطوّر تأريخية، هي حركة المعرفة. ولهذا السبب بالضبط يتناول المنطق الديالكتي الماركسي الشي‏ء الذي يدرسه من وجهة نظر تأريخية، من حيث هو عملية نموّ تطوّرية. إنّه يطابق التأريخ العامّ للمعرفة، يطابق تأريخ العلوم. ولينين إذ يبيّن في الوقت نفسه- باستخدامه مثل العلوم الطبيعية والاقتصاد السياسي والتأريخ- أنّ الديالكتيك يستمدّ استنتاجاته العامّة من تأريخ الفكر، يؤكّد أنّ على تأريخ الفكر في المنطق أن يطابق جزئياً وكلّياً قوانين الفكر»[1].

أمّا أنّ تأريخ المعارف والعلوم الإنسانية زاخر بتقدّم العلم وتكامله في شتّى الميادين ومختلف أبواب الحياة والتجربة، فهذا ما لا يختلف فيه اثنان، ونظرة واحدة نلقيها على العلم في يومه وأمسه، تجعلنا نؤمن كلّ الإيمان بمدى التطوّر السريع والتكامل الرائع الذي حصل عليه في أشواطه الأخيرة. ولكن هذا التطوّر العلمي ليس من ألوان الحركة بمفهومها الفلسفي الذي تحاوله الماركسية، بل لا يعدو أن يكون تقلّصاً كمّياً في الأخطاء، وزيادة كمّية في الحقائق. فالعلم يتطوّر لا بمعنى أنّ الحقيقة العلمية تنمو وتتكامل، بل بمعنى: أنّ حقائقه تزيد وتتكاثر، وأخطاءه تقلّ وتتناقص تبعاً لتوسّع النطاق التجريبي، والتعمّق في التجربة وتدقيق وسائلها.

 

[1] المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي: 12- 13

273

المادّي البحت للإدراك الذي يفرض اشتراكه مع الطبيعة في جميع قوانينها ونواميسها بما فيها قانون الحركة. وسوف نقوم بتحليل تلك النقطة الأساسية في جزء مستقلّ من هذه المسألة. ولكنّا نحاول أن نتساءل هنا من الماركسيين: هل التفسير المادّي للفكر أو الإدراك يختصّ بأفكار الديالكتيكيين خاصّة؟ أو يعمّ أفكار غيرهم ممّن لا يؤمن بالديالكتيك أيضاً؟ فإن كان يعمّ الأفكار كافة- كما تحتّمه الفلسفة المادّية- وجب أن تخضع جميعاً لقوانين التطوّر العام في المادّة.
ويبدو لأجل ذلك من التناقض الطريف أن تتّهم الماركسية الأفكار الاخرى بالجمود والقرار، وتعتبر فكرها وحده هو الفكر المتطوّر النامي؛ باعتباره جزءاً من الطبيعة المتطوّرة. مع أنّ الأفكار البشرية جميعاً في المفهوم المادّي ليست إلّا نتاجاً طبيعياً.
وقصارى ما في الموضوع: أنّ أصحاب المنطق العامّ أو الشكلي- كما يزعمون- لا يؤمنون بتطوّر الأفكار ديالكتيكياً، كما يؤمن الماركسيون. ولكن متى كان الإيمان بقانون من قوانين الطبيعة شرطاً من شرائط وجوده؟! أليس جسم (باستور) المكتشف للميكروب، وجسم (ابن سينا) الذي لم يكن يعرف عنه شيئاً، يشتركان معاً في التفاعل مع تلك الجراثيم طبقاً لقوانينها الطبيعية الخاصّة؟! وهكذا الشأن في كلّ قانون طبيعي. فإذا كان الديالكتيك قانوناً طبيعياً يعمّ الفكر والمادّة معاً، فهو يسري على الأفكار البشرية على السواء، وإن كان في اكتشافه شي‏ء، فهو الإسراع بحركة التطوّر فحسب.
المحاولة الثالثة- استغلال التطوّر والتكامل العلمي في شتّى الميادين، واعتباره دليلًا تجريبياً على ديالكتيكية الفكر وتطوّره. فتأريخ العلوم- في الزعم الماركسي- هو بنفسه تأريخ الحركة الديالكتيكية في التفكير البشري المتكامل على مرّ الزمن.

272

الواقع المتحرّك في الفكر على حركته ونموّه. وأمّا في هذه المحاولة فتستدلّ الماركسية على الحركة الديالكتيكية في الفكر؛ باعتباره جزءاً من الطبيعة، فقوانين الديالكتيك تجري على المادّة والإدراك معاً، وتشمل الواقع والفكر على السواء؛ لأنّ كلًا منهما جانب من الطبيعة. فالفكرة أو الحقيقة متطوّرة ونامية، لا لأنّها تعكس واقعاً متطوّراً ونامياً فحسب، بل لأنّها هي بذاتها جزء من العالم المتطوّر طبقاً لقوانين الديالكتيك. فالديالكتيك كما ينصّ على وجود الحركة الديناميكية القائمة على أساس التناقض الداخلي في محتوى كلّ ظاهرة موضوعية من ظواهر الطبيعة، كذلك ينصّ عليها في ظواهر الفكر والإدراك جميعاً.

ولنقرأ فيما يتّصل بالموضوع هذا النصّ:

«إنّ الكون هو حركة للمادّة، تخضع لقوانين. ولمّا لم تكن معرفتنا إلّانتاجاً أعلى للطبيعة، لا يسعها إلّاأن تعكس هذه القوانين»[1].

«إذا تساءلنا: ما هو الفكر؟ وما هو الوعي؟ ومن أين يأتيان؟ وجدنا أنّ الإنسان هو نفسه نتاج للطبيعة، نما في بيئة ومع نموّ هذه البيئة. وعندئذٍ يصبح في غنىً عن البيان، كيف إنّ منتوجات الذهن البشري التي هي- أيضاً- عند آخر تحليل منتوجات للطبيعة ليست في تناقض، وإنّما في توافق مع سائر الطبيعة المترابطة؟»[2].

والنقطة الأساسية التي يرتكز عليها هذا الاستدلال، هي: الأخذ بالتفسير

 

[1] ما هي المادّية؟: 46- 47

[2] ما هي المادّية؟: 46- 47

271

أدوار حتّى ينتهي إلى (الرصاص). فهذا واقع موضوعي يشرحه العلم، ونكوّن على ضوئه مفهومنا الخاصّ عنه، فماذا تعني الماركسية بتطوّر المفهوم الذهني أو (الحقيقة) ديالكتيكياً طبقاً لتطوّر الواقع؟ فإن كانت تعني بذلك: أنّ نفس مفهومنا العلمي عن (اليورانيوم) يتطوّر تطوّراً ديالكتيكياً وطبيعياً تبعاً لتطوّر اليورانيوم نفسه، فيشعّ أشعّته الخاصّة، ويتحوّل في نهاية المطاف إلى رصاص، فهذا أقرب إلى حديث الظرف والفكاهة منه إلى الحديث الفلسفي المعقول.
وإن أرادت الماركسية: أنّ الإنسان يجب أن لا ينظر إلى اليورانيوم كعنصر جامد لا يتحرّك، بل يتابع سيره وحركته، ويكوّن مفهوماً عنه في كلّ مرحلة من مراحله، فليس في ذلك موضع للنقاش، ولا يعني حركة ديالكتيكية في الحقائق والمفاهيم؛ فإنّ كلّ مفهوم نكوّنه عن مرحلة معيّنة من مراحل تطوّر اليورانيوم، ثابت ولا يتطوّر ديالكتيكياً إلى مفهوم آخر، وإنّما يضاف إليه مفهوم جديد. وفي نهاية المطاف نملك عدّة من المفاهيم والحقائق الثابتة، يصوّر كلّ منها درجة خاصّة من الواقع الموضوعي، فأين الجدل والديالكتيك في الفكر؟! وأين ذلك المفهوم الذي يتطوّر طبيعياً تبعاً لتطوّر الواقع الخارجي؟!
هذا كلّ ما يتّصل بالمحاولة الماركسية الاولى وتفنيدها.
المحاولة الثانية- التي اتّخذتها الماركسية للتدليل على ديالكتيك الفكر وتطوّره هي: أنّ الفكر أو الإدراك ظاهرة من ظواهر الطبيعة، ونتاج عالٍ للمادّة، وبالتالي جزء من الطبيعة، فتحكمه نفس القوانين التي تسيطر على الطبيعة، ويتحرّك وينمو ديالكتيكياً، كما تتحرّك وتنمو جميع ظواهر الطبيعة.
ويلزمنا أن ننبّه على أنّ هذا الدليل يختلف عن الدليل السابق: ففي المحاولة السابقة كانت الماركسية تبرهن على وجود الحركة في الفكر عن طريق كونه انعكاساً للواقع المتحرّك، والانعكاس لا يحصل بصورة تامّة إذا لم ينعكس‏

270

الميتا فيزيقيين إذا كوّنوا مفهوماً عن الطبيعة في مرحلة من مراحلها جمّدوا أفكارهم، وأوقفوا بحوثهم، واعتبروا ذلك المفهوم كافياً لاستكناه أسرار الطبيعة في شتّى مراحلها، فإنّا لا نعرف عاقلًا يكتفي- مثلًا- بالمفهوم العلمي الذي يكوّنه عن البويض، فلا يتابع سير الكائن الحيّ في المرحلة الثانية، ويكتفي بما كوّنه من المفهوم العلمي عنه في تلك المرحلة المعيّنة.
فنحن- إذن- نؤمن بتطوّر الطبيعة، ونرى من الضروري دراستها في كلّ دور من أدوار نموّها وحركتها، وتكوين مفهوم عنه، وليس هذا من مختصّات الديالكتيك. وإنّما الذي يرفضه التفكير الميتافيزيقي هو: وجود حركة ديناميكية طبيعية في كلّ مفهوم ذهني. فالميتا فيزيقية تطالب بالتمييز بين البويض، ومفهومنا العلمي عنه: فالبويض يتطوّر وينمو طبيعياً، فيغدو نطفة ثمّ جنيناً. وأمّا مفهومنا الذهني عنه، فهو مفهوم ثابت لا يمكن أن ينمو ويصير نطفة في حال من الأحوال، وإنّما يجب لأجل معرفة (ما هي النطفة؟) أن نكوّن مفهوماً آخر على ضوء مراقبة البويض في مرحلة جديدة. فمثل التفكير في ذلك كمثل الشريط السينمائي الذي يلتقط عدداً من الصور المتلاحقة، فليست الصورة الاولى في الشريط هي التي تتطوّر وتتحرّك، وإنّما التتابع بين الصور هو الذي يشكّل الشريط السينمائي.
وعلى هذا فالإدراك البشري لا يعكس الواقع، إلّاكما يعكس الشريط ألوان الحركة والنشاط التي يحفل بها الفيلم السينمائي. فالإدراك لا يتطوّر ولا ينمو ديالكتيكياً تبعاً للواقع المنعكس، وإنّما يجب تكوين إدراك ثابت في كلّ مرحلة من مراحل الواقع.
ولنأخذ مثالًا آخر من عنصر (اليورانيوم) الذي يشعّ بأشعّة (ألفا) و (بيتا) و (جاما)، ويتحوّل بالتدريج إلى عنصر آخر أخفّ منه في وزنه الذرّي، وهو:

عنصر (الراديوم) الذي يتحوّل بدوره وبالتدريج إلى عنصر أخفّ منه، ويمرّ في‏

269

الأشياء الموضوعية مفاهيمها وماهياتها، والمفهوم الذي ينعكس فيه عن تلك الأشياء يختلف عن الواقع الخارجي في الوجود والخصائص.
فالعالِم يمكنه أن يكوّن فكرة علمية دقيقة عن الميكروب وتركيبه، ونشاطه الخاصّ وتفاعلاته مع جسم الإنسان، ولكنّ الفكرة مهما كانت دقيقة ومفصّلة، لا توجد فيها خواصّ الميكروب الخارجي، ولا يمكنها أن تؤدّي نفس الدور الذي يؤدّيه واقعها الموضوعي. والفيزيائي قد يكتسب مفهوماً علمياً دقيقاً عن ذرّة الراديوم، ويحدّد وزنها الذرّي، وعدد ما تحويه من كهارب، وشحنات سالبة وموجبة، وكمّية الإشعاع الذي ينبثق عنها، ونسبته العلمية الدقيقة إلى الإشعاع الذي ترسله ذرّات الاورانيوم، إلى غير ذلك من المعلومات والتفاصيل … غير أنّ هذا المفهوم مهما تعمّقنا فيه، أو تعمّق في الكشف عن أسرار عنصر الراديوم، لن يكتسب خواصّ الواقع الموضوعي، أي: خواصّ الراديوم، ولن يشعَّ الإشعاع الذي تولده ذرّات هذا العنصر، وبالتالي لن يتطوّر مفهومنا عن الذرّة إلى إشعاع، كما تتطوّر بعض الذرّات في المجال الخارجي.
وهكذا يتّضح: أنّ قوانين الواقع الموضوعي وخواصّه، لا توجد في الفكرة ذاتها. ومن تلك القوانين والخواصّ: الحركة، فهي وإن كانت من الخواصّ العامّة للمادّة، ومن قوانينها الثابتة، ولكنّ الحقيقة في ذهننا، أو الفكرة التي تعكس الطبيعة، لا توجد فيها تلك الخاصّية، فلا يجب في الفكرة الصحيحة أن تعكس الواقع الموضوعي بخصائصه وألوان نشاطه المختلفة، وإلّا لم نكن نملك فكرة حقيقية في جميع أفكارنا.
فالميتا فيزيقية، مع إيمانها بأنّ الطبيعة هي عالم الحركة والتطوّر الدائم، تختلف عن الديالكتيك، وترفض عموم قانون الحركة للمفاهيم الذهنية؛ لأنّها لا يمكن أن تتوفّر فيها جميع خصائص الواقع الموضوعي. وليس معنى هذا: أن‏