کتابخانه
352

الاختلاف الفلسفي الأعمق الذي أشرنا إليه)[1].

ونظرية الإمكان الوجودي هي للفيلسوف الإسلامي الكبير (صدر الدين الشيرازي). وقد انطلق فيها من تحليل مبدأ العلّية نفسه، وخرج من تحليله ظافراً بالسرّ، فلم يكلّفه الظفر بالسبب الحقيقي لحاجة الأشياء إلى عللها، أكثر من فهم مبدأ العلّية فهماً فلسفياً عميقاً.

والآن نبدأ كما بدأ، فنتناول العلّية بالدرس والتمحيص.

لا شكّ في أنّ العلّية علاقة قائمة بين وجودين: العلّة، والمعلول. فهي لون من ألوان الارتباط بين شيئين. وللارتباط ألوان وضروب شتّى، فالرسّام مرتبط باللوحة التي يرسم عليها، والكاتب مرتبط بالقلم الذي يكتب به، والمطالع مرتبط بالكتاب الذي يقرأ فيه، والأسد مرتبط بسلسلة الحديد التي تطوّق عنقه، وهكذا سائر العلاقات والارتباطات بين الأشياء. ولكن شيئاً واضحاً يبدو بجلاء في كلّ ما قدّمناه من الأمثلة للارتباط، وهو: أنّ لكلّ من الشيئين المرتبطين وجوداً خاصّاً، سابقاً على ارتباطه بالآخر. فاللوحة والرسّام كلاهما موجودان قبل أن توجد عملية الرسم، والكاتب والقلم موجودان قبل أن يرتبط أحدهما بالآخر، والمطالع والكتاب كذلك وجدا بصورة مستقلّة، ثمّ عرض لهما الارتباط.

فالارتباط في جميع هذه الأمثلة علاقة تعرض للشيئين بصورة متأخّرة عن وجودهما، ولذلك فهو شي‏ء ووجودهما شي‏ء آخر. فليست اللوحة في حقيقتها

 

[1] المنقول عن السيّد المؤلّف رحمه الله أ نّه انتهى في تطوّر فكره الفلسفي إلى الاعتقاد بأنّ الاختلاف المطروح بين القائلين بأصالة الماهيّة والقائلين بأصالة الوجود لا يعدو أن يكون اختلافاً لفظيّاً تورّط فيه كلّ من الطرفين على أثر سوء فهم مراد الطرف الآخر.( لجنة التحقيق)

351

سؤال: لماذا وجد؟ أمام كلّ حقيقة من الحقائق التي نعاصرها في هذا الكون.
وعلى ضوء هذه النظرية يصبح مبدأ العلّية مقتصراً على الحوادث خاصّة. فإذا كان الشي‏ء موجوداً بصورة مستمرّة ودائمة، ولم يكن حادثاً بعد العدم، فلا توجد فيه حاجة إلى السبب، ولا يدخل في النطاق الخاصّ لمبدأ العلّية.
وهذه النظرية أسرفت في تحديد العلّية، كما أسرفت النظرية السابقة في تعميمها، وليس لها ما يبرّرها من ناحية فلسفية. فمردّ الحدوث في الحقيقة إلى وجود الشي‏ء بعد العدم، كوجود السخونة في ماء لم يكن ساخناً، ولا يفترق لدى العقل أن توجد هذه السخونة بعد العدم، وأن تكون موجودة بصورة دائمة؛ فإنّه يتطلّب على كلّ حال سبباً خاصّاً لها. فالصعود بعمر الشي‏ء وتأريخه إلى أبعد الآماد، لا يبرّر وجوده، ولا يجعله مستغنياً عن العلّة.
وبكلمة اخرى: أنّ وجود السخونة الحادثة، لمّا كان بحاجة إلى سبب، فلا يكفي لتحريره من هذه الحاجة أن نمدّده؛ لأنّ تمديده سوف يجعلنا نصعد بالسؤال عن العلّة مهما اتّسعت عملية التمديد.

ج، د- نظرية الإمكان الذاتي، والإمكان الوجودي:

وهاتان النظريتان تؤمنان بأنّ الباعث على حاجة الأشياء إلى أسبابها، هو الإمكان. غير أنّ لكلّ من النظريتين مفهومها الخاصّ عن الإمكان، الذي تختلف به عن الاخرى، وهذا الاختلاف بينهما مظهر لاختلاف فلسفي أعمق حول الماهية والوجود، وحيث إنّ حدود هذا الكتاب لا تسمح بالتحدّث عن ذلك الاختلاف وتمحيصه، فسوف نقتصر على نظرية الإمكان الوجودي في مسألتنا؛ نظراً إلى ارتكازها على الرأي القائل بأصالة الوجود (أي: الرأي الصحيح في‏

350

والأسباب، ليس صحيحاً- إذن- ما دامت التجربة لا تباشر إلّاالحقل المادّي من الوجود، وما دام نشاطها في هذا الحقل الذي تباشره لا يتخطّى إيضاح الأسباب والآثار المنبثقة عنها إلى الكشف عن السبب الذي جعل هذه الآثار بحاجة إلى تلك الأسباب. وإذا كانت التجربة ووسائلها المحدودة، قاصرة عن تكوين إجابة واضحة في هذه المسألة، فيجب درسها على الاسس العقلية، وبصورة فلسفية مستقلّة. فكما أنّ مبدأ العلّية نفسه من المبادئ الفلسفية الخالصة- كما عرفت سابقاً- كذلك- أيضاً- البحوث المتّصلة به، والنظريات التي تعالج حدوده.

ويجب أن نشير إلى أنّ اتّهام فكرة المبدأ الأوّل بأ نّها لون من الإيمان بالصدفة، ينطوي على سوء فهم لهذه الفكرة، وما ترتكز عليه من مفاهيم؛ ذلك أنّ الصدفة عبارة عن الوجود من دون سبب، لشي‏ء يستوي بالنسبة إليه الوجود والعدم، فكلّ شي‏ء ينطوي على إمكان الوجود، وإمكان العدم بصورة متعادلة، ثمّ يوجد من دون علّة، فهو الصدفة. وفكرة المبدأ الأوّل تنطلق من القول: بأنّ المبدأ الأوّل لا يتعادل فيه الوجود والعدم، فهو ليس ممكن الوجود والعدم معاً، بل ضروريّ الوجود، وممتنع العدم. ومن البدهي: أنّ الاعتقاد بموجودٍ هذه صفته، لا ينطوي على التصديق بالصدفة مطلقاً.

ب- نظرية الحدوث:

وهي النظرية التي تعتبر حاجة الأشياء إلى أسبابها مستندة إلى حدوثها[1]. فالانفجار، أو الحركة، أو الحرارة، إنّما نتطلّب لها أسباباً؛ لأنّها امور حدثت بعد العدم. فالحدوث هو الذي يفتقر إلى علّة، وهو الباعث الرئيسي الذي يثير فينا

 

[1] راجع شرح المقاصد لسعد الدين التفتازاني 2: 13

349

وأشكاله- التي كشفت عنها التجربة- لا يتجرّد عن سببه ولا يستغني عن العلّة.

فالعلّية ناموس عام للوجود، بحكم التجارب العلمية. وافتراض وجود ليس له علّة، مناقض لهذا الناموس، ولأجل ذلك كان ضرباً من الاعتقاد بالصدفة التي لا متّسع لها في نظام الكون العام‏[1].

وقد حاولوا عن هذا الطريق أن يتّهموا الفلسفة الإلهية بأ نّها تؤمن بالصدفة؛ نظراً إلى اعتقادها بوجود مبدأ أوّل لم ينشأ من سبب ولم تتقدّمه علّة. فهذا الوجود المزعوم للإلهية، لمّا كان شاذّ اًعن مبدأ العلّية، فهو صدفة، وقد أثبت العلم أن لا صدفة في الوجود، فلا يمكن التسليم بوجود المبدأ الإلهي الذي تزعمه الفلسفة الميتافيزيقية.

وهكذا أخطأ هؤلاء مرّة اخرى حين أرادوا استكشاف سرّ الحاجة إلى العلّة، ومعرفة حدود العلّية، ومدى اتّساعها عن طريق التجارب العلمية، كما أخطأوا سابقاً في محاولة استنباط مبدأ العلّية بالذات وبصورة رئيسية من التجربة والاستقراء العلمي للكون؛ فإنّ التجارب العلمية لا تعمل إلّافي حقلها الخاصّ، وهو نطاق مادّي محدود، وقصارى ما تكشف عنه هو خضوع الأشياء في ذلك النطاق لمبدأ العلّية، فالانفجار، أو الغليان، أو الاحتراق، أو الحرارة، أو الحركة، وما إلى ذلك من ظواهرالطبيعة، لا توجد دون أسباب، وليس في الإمكانات العلمية للتجربة، التدليل على أنّ سرّ الحاجة إلى العلّة كامن في الوجود بصورة عامّة، فمن الجائز أن يكون السرّ ثابتاً في ألوان خاصّة من الوجود، وأن تكون الأشياء التي ظهرت في المجال التجريبي، من تلك الألوان الخاصّة.

فاعتبار التجربة دليلًا على أنّ الوجود بصورة عامة خاضع للعلل‏

 

[1] جبر واختيار، تقي آراني: 5

348

لماذا تحتاج الأشياء إلى علّة؟

نتناول الآن ناحية جديدة من مبدأ العلّية، وهي الإجابة عن السؤال التالي:
لماذا تحتاج الأشياء إلى أسباب وعلل، فلا توجد بدونها؟ وما هو السبب الحقيقي الذي يجعلها متوقّفة على تلك الأسباب والعلل؟ وهذا سؤال نواجهه بطبيعة الحال بعد أن آمنّا بمبدأ العلّية؛ فإنّ الأشياء التي نعاصرها في هذا الكون ما دامت خاضعة بصورة عامة لمبدأ العلّية، وموجودة طبقاً لقوانينها، فيجب أن نتساءل عن سرّ خضوعها لهذا المبدأ، فهل مردّ هذا الخضوع إلى ناحية ذاتية في تلك الأشياء، لا يمكنها أن تتحرّر عنها مطلقاً؟ أو إلى سبب خارجي جعلها بحاجة إلى علل وأسباب؟ وسواءٌ أصحّ هذا أم ذاك، فما هي حدود هذا السرّ الذي يرتكز عليه مبدأ العلّية؟ وهل يعمّ ألوان الوجود جميعاً أو لا؟
وقد حصلت هذه الأسئلة على أربع نظريات لمحاولة الإجابة عنها:

أ- نظرية الوجود:

وهي النظرية القائلة: إنّ الموجود يحتاج إلى علّة؛ لأجل وجوده. وهذه الحاجة ذاتية للوجود، فلا يمكن أن نتصوّر وجوداً متحرّراً من هذه الحاجة؛ لأنّ سبب الافتقار إلى العلّة سرّ كامن في صميمه. ويترتّب على ذلك: أنّ كلّ وجود معلول.
وقد أخذ بهذه النظرية بعض فلاسفة الماركسية، مستندين في تبريرها علمياً إلى التجارب التي دلّت- في مختلف ميادين الكون- على أنّ الوجود بشتّى ألوانه‏

347

لأ نّه يجد نفسه إزاء وقائع فيزيائية لا يستطيع قياسها بدون أن يدخل فيها اضطراباً غير قابل للقياس. وبذلك يختلف موقفه تجاه هذه الوقائع عن موقفه في تجارب فيزياء العين المجرّدة؛ لأنّه في تلك التجارب يستطيع أن يقوم بقياساته دون إجراء أيّ تعديل في الشي‏ء المقاس، وحتّى حينما يعدل فيه يكون هذا التعديل نفسه قابلًا للقياس. وأمّا في الميكروفيزياء، فقد تكون دقّة الأداة وقوّتها بنفسها سبباً في فشلها؛ إذ تُحدِث تغييراً في الموضوع الملاحظ، فلا يمكن أن يُدرَس بصورة موضوعية مستقلّة. ولذلك يقول (جان لويس ديتوش)- فيما يتعلّق بجُسيم من الجُسيمات-: فبدلًا أن تكون شدّة النور هي ذات الأهمية؛ إذ يصبح طول الموجة هو المهمّ. فكلّما أضأنا الجُسيم بموجة قصيرة- أي: بموجة ذات تواتر كبير- أصبحت حركته عرضة للاضطراب.
ومردّ السببين معاً إلى قصور وسائل التجربة والمشاهدة العلميّتين: إمّا عن ضبط الموضوع الملاحظ بجميع شروطه وظروفه المادّية، وإمّا عن قياس التأثير الذي توجده التجربة نفسها فيه قياساً دقيقاً. وكلّ هذا إنّما يقرّر عدم إمكان الاطّلاع على النظام الحتمي الذي يتحكّم في الجُسيمات وحركاتها مثلًا، وعدم إمكان التنبّؤ بمسلك هذه الجُسيمات تنبّؤاً مضبوطاً. ولا يبرهن ذلك على حرّيتها، ولا يبرّر إدخال اللاحتمية إلى مجال المادّة، وإسقاط قوانين العلّية من حساب الكون.

346

بالعلّية كنظام عام للكون فيها، لم يكن بدليل تجريبي بحت، وأنّ مبدأ العلّية مبدأ ضروري فوق التجربة، وإلّا لم يستقم علم طبيعي على الإطلاق. وإذا تبيّنا هذا، ووضعنا مبدأ العلّية في موضعه الطبيعي من تسلسل الفكر الإنساني، فسوف لا يزعزع به عدم تمكّننا من تطبيقه تجريبياً في بعض ميادين الطبيعة، والعجز عن استكشاف النظام الحتمي الكامل فيها بالأساليب العلمية؛ فإنّ كلّ ما جمعه العلماء من ملاحظات على ضوء تجاربهم الميكرو فيزيائية، لا يعني أنّ الدليل العلمي قد برهن على خطأ مبدأ العلّية وقوانينها في هذا المجال الدقيق من مجالات الطبيعة المتنوّعة.
ومن الواضح: أنّ عدم توفّر الإمكانيات العلمية والتجريبية لا يمسّ مبدأ العلّية في كثير أو قليل ما دام مبدأً ضرورياً فوق التجربة. ويوجد- عندئذٍ- لفشل التجارب العلمية في محاولة الظفر بأسرار النظام الحتمي للذرّة تفسيران:
الأوّل- نقصان الوسائل العلمية، وعدم توفّر الأدوات التجريبية التي تتيح للعالم الاطّلاع على جميع الشروط والظروف المادّية. فقد يعمل العالم بأداة واحدة على موضوع واحد عدّة مرّات، فيصل إلى نتائج مختلفة، لا لأنّ الموضوع الذي عمل عليه متحرّر من كلّ نظام حتمي، بل لأنّ الوسائل التجريبية الميسورة لم تكن كاملة إلى حدّ تكشف له عن الشروط المادّية الدقيقة التي اختلفت النتائج بسبب اختلافها. ومن الطبيعي: أن تكون وسائل التجربة في المجالات الذرّية ووقائعها، أبعد عن الكمال من الوسائل التجريبية التي تتّخذ في مجالات فيزيائية اخرى أقلّ خفاء وأكثر وضوحاً.
الثاني- تأثّر الموضوع- نظراً إلى دقّته وضآلته- بالمقاييس والأدوات العلمية تأثّراً دقيقاً لا يقبل القياس والدرس العلمي. فقد تبلغ الوسائل العلمية الذروة في الدقّة والكمال والعمق، ولكن العالم- مع ذلك- يواجه المشكلة نفسها؛

345

ومعنى ذلك: أ نّه لا يمكن فصل الشي‏ء الملاحظ في الميكروفيزياء عن الأداة العلمية التي يستعملها العالم لدرسه، كما لا يمكن فصله عن الملاحظ نفسه؛ إذ أنّ ملاحظين مختلفين يعملون بأداة واحدة على موضع واحد، سوف يصلون إلى مقاييس مختلفة. ومن هنا نشأت فكرة اللاحتمية التي تناقض بصفة مطلقة مبدأ العلّية، والقواعد الأساسية التي سارت عليها الفيزياء قبل ذلك. وجرت محاولات لاستبدال العلّية الحتمية بما يُسمّى (علاقات الارتياب)، أو (قوانين الاحتمال) التي نادى بها (هايزنبرغ)، مصرّاً على أنّ العلوم الطبيعية- كالعلوم الإنسانية- لا تستطيع أن تتنبّأ تنبّؤاً يقييناً حينما تنظر إلى العنصر البسيط، بل أنّ كلّ ما تستطيعه هو أن تصوغ احتمالًا من الاحتمالات.
والواقع: أنّ جميع هذه الشكوك والارتيابات العلمية التي أثارها العلماء في الميكروفيزياء، ترتكز على فهم خاصّ لمبدأ العلّية وقوانينها، لا يتّفق مع فهمنا وتحليلنا الفلسفي له. فنحن لا نريد أن نناقش هؤلاء العلماء في تجاربهم، أو ندعوهم إلى التغاضي عن مستكشفاتها والتخلّي عنها، ولا نرمي إلى التقليل من شأنها وخطرها، وإنّما نختلف عنهم في مفهومنا العام عن مبدأ العلّية، وعلى أساس هذا الاختلاف، تصبح كلّ المحاولات السابقة لدحض مبدأ العلّية وقوانينها، غير ذات معنى.
ومفصّل الحديث حول ذلك: أنّ (مبدأ العلّية) لو كان مبدأً علمياً قائماً على أساس التجارب والمشاهدات في حقل الفيزياء الاعتيادية، لكان رهن التجربة في ثبوته وعمومه، فإذا لم نظفر له بتطبيقات واضحة في ميادين الفيزياء الذرّية، ولم نستطع أن نستكشف لها نظاماً حتمياً قائماً على مبدأ العلّية وقوانينها، كان من حقّنا أن نشكّ في قيمة المبدأ بالذات، ومدى صحّته أو عمومه. غير أ نّا أوضحنا فيما سبق: أنّ تطبيق مبدأ العلّية على المجالات الاعتيادية للفيزياء، والاعتقاد

344
مبدأ العلّية و الميكرو فيزياء:

نستطيع على ضوء النتائج التي انتهينا إليها في مبدأ العلّية، أن ندحض تلك الحملات الشديدة التي شُنّت في الميكروفيزياء ضدّ قانون الحتمية، وبالتالي ضدّ مبدأ العلّية بالذات. فقد وجد في الفيزياء الذرّية الاتّجاه القائل: إنّ الضبط الحتمي الذي تؤكّد عليه العلّية وقوانينها، لا يصحّ في مستوى الميكروفيزياء. فقد يكون من الصحيح أنّ الأسباب ذاتها تولّد النتائج نفسها في مستوى الفيزياء المدرسية، أو فيزياء العين المجرّدة، وأنّ تأثير الأسباب الفاعلة في ظروف شخصية واحدة، لا بدّ له من أن ينتهي إلى محصّلة واحدة حتماً، بحيث نستطيع أن نتأكّد من طبيعة النتائج وحتميّتها بسبب دراسة الأسباب والشرائط الطبيعية … ولكن كلّ شي‏ء يبدو على غير هذا اللون إذا حاولنا أن نطبّق مبادئ العلّية على العالم الذرّي.

ولذلك أعلن (هايزنبرغ) العالم الفيزيائي أنّ من المستحيل علينا أن نقيس بصورة دقيقة كمّية الحركة التي يقوم بها جُسيم بسيط، وأن نحدّد- في الوقت عينه- موضعه في الموجة المرتبطة به، بحسب الميكانيكا الموجبة التي نادى بها (لويس دوبروغي). فكلّما كان مقياس موضعه دقيقاً، كان هذا المقياس عاملًا في تعديل كمّية الحركة، ومن ثمّة في تعديل سرعة الجُسيم بصورة لا يمكن التنبّؤ بها.

وكلّما كان مقياس كمّية الحركة دقيقاً، أصبح موضع الجُسيم غير محدّد[1]. فالوقائع الفيزيائية في المجال الذرّي، لا يستطاع قياسها بدون أن يدخل فيها اضطراباً غير قابل للقياس. ومهما تعمّقنا في تدقيق المقاييس العلمية، ابتعدنا أكثر عن الواقع الموضوعي لتلك الوقائع.

 

[1] هذه هي الديالكتيكية: 132