کتابخانه
343

الميكانيكية إذا عجزت التجربة في بعض المجالات العلمية عن الكشف عمّا وراء الظاهرة من علل وأسباب؛ لأنّها لم تتمّ إلّاعلى أساس تجريبي، فإذا خانتها التجربة، ولم يبرهن عليها التطبيق العملي سقطت عن درجة الوثوق العلمي والاعتبار.
وأمّا على رأينا في العلّية القائل: إنّها مبدأ عقلي فوق التجربة، فالموقف يختلف كلّ الاختلاف من جوانب عديدة:
أوّلًا- أنّ العلّية لا تقتصر على الظواهر الطبيعية التي تبدو في التجربة، بل هي قانون عام للوجود في مجاله الأوسع الذي يضمّ الظواهر الطبيعية ونفس المادّة وما وراء المادّة من ألوان الوجود.
ثانياً- أنّ السبب الذي يحكم بوجوده مبدأ العلّية، ليس من الضروري أن يخضع للتجربة، أو أن يكون شيئاً مادّياً.
ثالثاً- أنّ عدم كشف التجربة عن وجود سبب معيّن لصيرورة ما أو لظاهرة ما، لا يعني فشل مبدأ العلّية؛ إذ أنّ هذا المبدأ لم يرتكز على التجربة ليتزعزع بسبب عدم توفّرها. فبالرغم من عجز التجربة عن استكشاف السبب، يبقى الوثوق الفلسفي بوجوده- طبقاً لمبدأ العلّية- قوياً، ويرجع فشل التجربة في الكشف عن السبب إلى أمرين: إمّا قصورها وعدم إحاطتها بالواقع المادّي، والملابسات الخاصّة للحادثة، وإمّا أنّ السبب المجهول خارج عن الحقل التجريبي، وموجود فوق عالم الطبيعة والمادّة.
وبما سبق يمكننا أن نميّز الفوارق الأساسية بين فكرتنا عن مبدأ العلّية، والفكرة الميكانيكية عنه. ونتبيّن أنّ الشكّ الذي اثير حول مبدأ العلّية، لم يكن إلّا نتيجة لتفسيره على أساس المفهوم الميكانيكي الناقص.

342

المشكلة، إنّما هو: مبدأ العلّية[1]، باعتباره دليلًا على تعميم الاستنتاج وشموله. فلو افترضنا أنّ مبدأ العلّية نفسه مرتكز على التجربة، فمن الضروري أن نواجه مشكلة العموم والشمول مرّة اخرى؛ نظراً إلى أنّ التجربة ليست مستوعِبة للكون، فكيف تعتبر دليلًا على نظرية عامّة؟! وقد كنّا نحلّ هذه المشكلة- حين نواجهها في مختلف النظريات العلمية- بالاستناد إلى مبدأ العلّية، بصفته الدليل الكافي على عموم النتيجة وشمولها. وأمّا إذا اعتبر نفس هذا المبدأ تجريبياً، وواجهنا المسألة فيه، فسوف نعجز نهائياً عن الجواب عليه. فلا بدّ- إذن- أن يكون مبدأ العلّية فوق التجربة، وقاعدة أساسية للاستنتاجات التجريبية عامّة.

ج- أنّ مبدأ العلّية لا يمكن الاستدلال على ردّه بأيّ لون من ألوان الاستدلال؛ لأنّ كلّ محاولة من هذا القبيل تنطوي ضمناً على الاعتراف به، فهو- إذن- ثابت بصورة متقدّمة على جميع الاستدلالات التي يقوم بها الإنسان.

وخلاصة هذه النتائج: أنّ مبدأ العلّية ليس مبدأً تجريبياً، وإنّما هو مبدأ عقلي ضروري.

وعلى هذا الضوء يمكننا أن نضع الحدّ الفاصل بين الميكانيكية والديناميكية، وبين مبدأ العلّية ومبدأ الحرّية؛ فإنّ التفسير الميكانيكي للعلّية كان يقوم على أساس اعتبارها مبدأً تجريبياً، فهي ليست في رأي الميكانيكية المادّية إلّارابطة مادّية، تقوم بين ظواهر مادّية في الحقل التجريبي، وتستكشف بالوسائل العلمية. ولأجل ذلك كان من الطبيعي أن تنهار العلّية

 

[1] بل الحلّ الوحيد لها- حسب ما انتهى إليه السيّد المؤلّف رحمه الله في كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء»- هو الإيمان بطريقة التوالد الذاتي للمعرفة، كما أشرنا إليه سابقاً.( لجنة التحقيق)

341

بعض الفلاسفة أو العلماء، يرتكز على مبدأ العلّية أيضاً؛ لأنّ هؤلاء الذين يحاولون إنكار هذا المبدأ، والاستناد في ذلك إلى دليل، لم يكونوا يقومون بهذه المحاولة لو لم يؤمنوا بأنّ الدليل الذي يستندون إليه، سبب كافٍ للعلم ببطلان مبدأ العلّية. وهذا بنفسه تطبيق حرفي لهذا المبدأ.

الميكانيكية والديناميكية:

يترتّب على ما سبق النتائج التالية:
أ- أنّ مبدأ العلّية لا يمكن إثباته والتدليل عليه بالحسّ؛ لأنّ الحسّ لا يكتسب صفة موضوعية إلّاعلى ضوء هذا المبدأ. فنحن نثبت الواقع الموضوعي لأحاسيسنا استناداً إلى مبدأ العلّية، فليس من المعقول أن يكون هذا المبدأ مديناً للحسّ في ثبوته، ومرتكزاً عليه، بل هو مبدأ عقلي يصدّق به الإنسان، بصورة مستغنية عن الحسّ الخارجي.
ب- أنّ مبدأ العلّية ليس نظرية علمية تجريبية، وإنّما هو: قانون فلسفي عقلي فوق التجربة؛ لأنّ جميع النظريات العلمية تتوقّف عليه. ويبدو هذا واضحاً كلّ الوضوح بعد أن عرفنا أنّ كلّ استنتاج علمي قائم على التجربة يواجه مشكلة العموم والشمول، وهي: أنّ التجربة التي يرتكز عليها الاستنتاج محدودة، فكيف تكون بمجرّدها دليلًا على نظرية عامّة؟! وعرفنا- أيضاً- أنّ الحلّ الوحيد لهذه‏

340

صحيحاً ولا ينتج النتيجة المطلوبة ما دامت قد انفصمت علاقة العلّية بين الأدلّة والنتائج، بين الأسباب والآثار.

وهكذا يتّضح: أنّ كلّ محاولة للاستدلال تتوقّف على الإيمان بمبدأ العلّية، وإلّا كانت عبثاً غير مثمر[1]. وحتّى الاستدلال على ردّ مبدأ العلّية الذي يحاوله‏

 

[1] حاصل الكلام: أنّ من يحاول الاستدلال على قضيّة من القضايا لا بدّ له أن يكون على قناعة مسبقة بأ نّه لو تمّ له الدليل لحصل له العلم بالنتيجة، وإلّا لما أقحم نفسه في متاعب الاستدلال، وهذه القناعة إنّما تحصل على أساس الإيمان بسببيّة العلم بالدليل للعلم بالنتيجة، كي يتسنّى له الانتقال من العلم بالدليل إلى العلم بالنتيجة. ولمّا كانت هذه السببيّة مشتملةً على كبرى وصغرى كان عليه أن يؤمن مسبقاً بكبرى سببيّة كلّ علمٍ بالدليل للعلم بالنتيجة، ثمّ يستلهم الصغرى من خلال الاستدلال في كلّ قضيّةٍ من القضايا. وهذا واضح في ضوء المذهب العقلي للمعرفة الذي يرى أنّ الطريقة الوحيدة لنموّ المعارف البشريّة عبارة عن طريقة التوالد الموضوعي التي تكون النتيجة فيها مستبطنةً في المقدّمات، كما هو كذلك في الأدلّة التي يكون السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ.

وأمّا في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة الذي يؤمن بوجود طريقة اخرى لنموّ المعارف البشريّة، وهي طريقة التوالد الذاتي التي تعني نشوء معرفة جديدة من معارف اخرى قبليّة من دون ضرورة كون النتيجة مستبطنةً في المقدّمات، كما هو كذلك- حسب رأي هذا المذهب- في الأدلّة الاستقرائيّة التي يكون السير الفكري فيها من الخاصّ إلى العامّ، فليس من الضروري أن نؤمن مسبقاً بكبرى سببيّة العلم بالدليل للعلم بالنتيجة، إذ يمكن التوصّل- في رأي هذا المذهب- إلى عموم سببيّة العلم بالدليل للعلم بالنتيجة من خلال استقراء عددٍ من الأدلّة الخاصّة التي نشعر فيها وجداناً بالعلم بالنتيجة، فبدلًا عن الإيمان المسبق بعموم سببيّة العلم بالدليل للعلم بالنتيجة، ثمّ الانتقال منه إلى الأدلّة الخاصّة بوصفها مصاديق وصغريات لذلك العامّ، يمكن- في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة- أن نعكس الأمر، فنعمد إلى استقراء عدد من المصاديق الخاصّة للدليل التي نشعر فيها وجداناً بالعلم بالنتيجة لننتقل منها إلى الإيمان بعموم سببيّة العلم بالدليل للعلم بالنتيجة. وهذا يعني عدم الحاجة إلى الإيمان المسبق بهذه الكبرى في مجال الاستدلال.( لجنة التحقيق)

339

مبدأ العلّية. فمبدأ العلّية هو الأساس الأوّل لجميع العلوم والنظريات التجريبية[1].

وبتلخيص: أنّ النظريات التجريبية لا تكتسب صفة علمية ما لم تعمّم لمجالات أوسع من حدود التجربة الخاصّة، وتقدّم كحقيقة عامّة. ولا يمكن تقديمها كذلك إلّاعلى ضوء مبدأ العلّية وقوانينها، فلا بدّ للعلوم عامّة أن تعتبر مبدأ العلّية وما إليها من قانوني الحتمية والتناسب، مسلّمات أساسية، وتسلم بها بصورة سابقة على جميع نظريّاتها وقوانينها التجريبية.

[3-] العلّية والاستدلال:

مبدأ العلّية هو الركيزة التي تتوقّف عليها جميع محاولات الاستدلال في كلّ مجالات التفكير الإنساني؛ لأنّ الاستدلال بدليل على شي‏ء من الأشياء يعني: أنّ الدليل إذا كان صحيحاً، فهو سبب للعلم بالشي‏ء المستدلّ عليه. فحين نبرهن على حقيقة من الحقائق بتجربة علمية، أو بقانون فلسفي، أو بإحساس بسيط، إنّما نحاول بذلك أن يكون البرهان علّة للعلم بتلك الحقيقة. فلولا مبدأ العلّية والحتمية، لما اتيح لنا ذلك؛ لأنّنا إذا طرحنا قوانين العلّية من الحساب، ولم نؤمن بضرورة وجود أسباب معيّنة لكلّ حادث، لم تبقَ صلة بعد ذلك بين الدليل الذي نستند إليه، والحقيقة التي نحاول اكتسابها بسببه، بل يصبح من الجائز أن يكون الدليل‏

 

[1] ولكنّه رحمه الله جدّد النظر حول مشكلة التعميمات الاستقرائيّة في كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء» وأثبت عجز المذهب العقلي للمعرفة- بما فيه من مبدأ العلّيّة وقوانينها- عن حلّ تلك المشكلة، كما أنّ المذهب التجريبي للمعرفة عاجز عن ذلك أيضاً، وانتهى إلى أنّ الحلّ الوحيد لمشكلة التعميمات الاستقرائيّة يتمّ في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة، من دون حاجة إلى الإيمان المسبق بمبدأ العلّيّة وقوانينها.( لجنة التحقيق)

338

لإقامة علم طبيعي، لا مبرّر له إلّاقوانين العلّية بصورة عامّة، وقانون التناسب منها بصورة خاصّة، القائل: إنّ كلّ مجموعة متّفقة في حقيقتها، يجب أن تتّفق- أيضاً- في العلل والآثار، فلو لم تكن في الكون علل وآثار، وكانت الأشياء تجري على حسب الاتّفاق البحت، لما أمكن للعالم الطبيعي القول: إنّ ما صحّ في مختبره الخاصّ، يصحّ على كلّ جزء من الطبيعة على الإطلاق.
ولنأخذ لذلك مثالًا بسيطاً، مثال العالم الطبيعي الذي أثبت بالتجربة أنّ الأجسام تتمدّد حال حرارتها، فإنّه لم يحط بتجاربه جميع الأجسام التي يحتويها الكون طبعاً، وإنّما أجرى تجاربه على عدّة أجسام متنوّعة، كعجلات العربة الخشبية التي توضع عليها إطارات حديدية أصغر منها، حال سخونتها، فتنكمش الإطارات إذا بردت وتشتدّ على الخشب، ولنفرض أ نّه كرّر التجربة عدّة مرّات على أجسام اخرى، فلن ينجو في نهاية المطاف التجريبي عن مواجهة هذا السؤال: ما دمتَ لم تستقصِ جميع الجزئيات، فكيف يمكنك أن تؤمن بأنّ إطارات جديدة اخرى غير التي جرّبتها، تتمدّد هي الاخرى- أيضاً- بالحرارة.
والجواب الوحيد على هذا السؤال هو: مبدأ العلّية وقوانينها. فالعقل حيث إنّه لا يقبل الصدفة والاتّفاق، وإنّما يفسّر الكون بالعلّية وقوانينها من الحتمية والتناسب، يجد في التجارب المحدودة الكفاية للإيمان بالنظرية العامة القائلة بتمدّد الأجسام بالحرارة؛ لأنّ هذا التمدّد الذي كشفت عنه التجربة لم يكن صدفة، وإنّما كان حصيلة الحرارة ومعلولًا لها، وحيث أنّ قانون التناسب في العلّية ينصّ على أنّ المجموعة الواحدة من الطبيعة تتّفق في أسبابها ونتائجها وعللها وآثارها، فلا غرو أن تحصل كلّ المبرّرات- حينئذٍ- للتأكيد على شمول ظاهرة التمدّد لسائر الأجسام.
وهكذا نعرف أنّ وضع النظرية العامّة لم يكن ميسوراً دون الانطلاق من‏

337

الراديوم، فنقول: ما دامت جميع ذرّات هذا العنصر متّفقة في الحقيقة، فيجب أن تتّفق في أسبابها ونتائجها، فإذا كشفت التجربة العلمية عن إشعاع في بعض ذرّات الراديوم، أمكن القول باعتباره ظاهرة عامة لسائر الذرّات المماثلة في الظروف المشخّصة الواحدة.
ومن الواضح: أنّ القانونين الأخيرين: الحتمية والتناسب، منبثقان عن مبدأ العلّية، فلو لم تكن في الكون علّية بين بعض الأشياء وبعض، وكانت الأشياء تحدث صدفة واتّفاقاً، لم يكن من الحتمي أن يوجد الإشعاع بدرجة معيّنة حين تكون هناك ذرّة راديوم، ولم يكن من الضروري- أيضاً- أن تشترك جميع ذرّات العنصر في ظواهر إشعاعية معيّنة، بل يصبح من الجائز أن يكون الإشعاع في ذرّة دون اخرى، لا لشي‏ء إلّاللصدفة والاتّفاق، ما دام مبدأ العلّية خارجاً عن حساب الكون. فمردّ الحتمية والتناسب معاً إلى مبدأ العلّية.
ولنعد الآن- بعد أن عرفنا الفقرات الرئيسية الثلاث: العلّية، والحتمية، والتناسب- إلى العلوم والنظريات العلمية، فإنّنا سوف نجد بكلّ وضوح: أنّ جميع النظريات والقوانين التي تزخر بها العلوم، مرتكزة في الحقيقة على اساس تلك الفقرات الرئيسية، وقائمة على مبدأ العلّية وقوانينها. فلو لم يؤخذ هذا المبدأ كحقيقة فلسفية ثابتة، لما أمكن أن تقام نظرية، ويشاد قانون علمي له صفة العموم والشمول؛ ذلك أنّ التجربة التي يقوم بها العالم الطبيعي في مختبره، لا يمكن أن تستوعب جميع جزئيات الطبيعة، وإنّما تتناول عدّة جزئيات محدودة متّفقة في حقيقتها، فتكشف عن اشتراكها في ظاهرة معيّنة، وحيث يتأكّد العالم من صحّة التجربة ودقّتها وموضوعيتها، يضع فوراً نظريته أو قانونه العام الشامل لجميع ما يماثل موضوع تجربته من أجزاء الطبيعة. وهذا التعميم الذي هو شرط أساسي‏

336

أوّلي لا يحتاج إلى دليل، أي: إلى علم سابق. وهو النقطة الفاصلة بين المثالية والواقعية.
الثالثة- أنّ العلم بوجود واقع موضوعي لهذاالحسّ أو ذاك، إنّما يكتسب على ضوء مبدأ العلّية.

[2-] العلّية والنظريات العلمية:

إنّ النظريات العلمية في مختلف ميادين التجربة والمشاهدة، تتوقّف بصورة عامّة على مبدأ العلّية وقوانينها توقّفاً أساسياً. وإذا سقطت العلّية ونظامها الخاصّ من حساب الكون، يصبح من المتعذّر تماماً تكوين نظرية علمية في أيّ حقل من الحقول. وليتّضح هذا نجد من الضروري أن نشير إلى عدّة قوانين من المجموعة الفلسفية للعلّية التي يرتكز عليها العلم، وهي كما يلي:
أ- مبدأ العلّية القائل: إنّ لكلّ حادثة سبباً.
ب- قانون الحتمية القائل: إنّ كلّ سبب يولّد النتيجة الطبيعية له بصورة ضرورية، ولا يمكن للنتائج أن تنفصل عن أسبابها.
ج- قانون التناسب بين الأسباب والنتائج، القائل: إنّ كلّ مجموعة متّفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة، يلزم أن تتّفق- أيضاً- في الأسباب والنتائج.
فعلى ضوء مبدأ العلّية نعرف- مثلًا- أنّ الإشعاع الذي ينبثق عن ذرّة الراديوم له سبب، وهو: الانقسام الداخلي في محتوى الذرّة. وعلى ضوء قانون الحتمية، نستكشف أنّ هذا الانقسام عند استكمال الشروط اللازمة، يولّد الإشعاع الخاصّ بصورة حتمية، وليس من الممكن الفصل بينهما. وعلى أساس قانون التناسب نستطيع أن نعمّم ظاهرة الإشعاع، وتفسيرها الخاصّ لجميع ذرّات‏

335

ولكن المسألة التي تواجهنا حينئذٍ، هي: أنّ الإحساس إذا لم يكن بذاته دليلًا على وجود المحسوس خارج حدود الشعور والإدراك، فكيف نصدّق- إذن- بالواقع الموضوعي؟
والجواب جاهز على ضوء دراستنا لنظرية المعرفة، وهو: أنّ التصديق بوجود واقع موضوعي للعالم تصديق ضروري أوّلي، فهو لأجل ذلك لا يحتاج إلى دليل، ولكن هذا التصديق الضروري إنّما يعني وجود واقع خارجي للعالم على سبيل الإجمال. وأمّا الواقع الموضوعي لكلّ إحساس، فهو ليس معلوماً علماً ضرورياً. وإذن فنحتاج إلى دليل لإثبات موضوعية كلّ إحساس بصورة خاصّة، وهذا الدليل هو: مبدأ العلّية وقوانينها؛ ذلك أنّ حدوث صورة لشي‏ء معيّن في ظروف وشروط معيّنة، يكشف عن وجود علّة خارجية له، تطبيقاً لذلك المبدأ.
فلولا هذا المبدأ لما كشف الإحساس، أو وجود الشي‏ء في الحسّ عن وجوده في مجال آخر. ولأجل هذا السبب قد يحسّ الإنسان بأشياء، أو يُخيّل له أ نّه يبصرها في حالات مرضية خاصّة، ولا يستكشف من ذلك واقعاً موضوعاً لتلك الأشياء؛ حيث إنّ تطبيق مبدأ العلّية لا يدلّل على وجود هذا الواقع ما دام يمكن تعليل الإحساس بالحالة المرضية الخاصّة، وإنّما يثبت الواقع الموضوعي للحسّ فيما إذا لم يكن له تفسير على ضوء مبدأ العلّية، إلّابواقع موضوعي ينشأ الإحساس منه.
ويستنتج من ذلك القضايا الثلاث الآتية:
الاولى- أنّ الإحساس وحده لا يكشف عن وجود واقع موضوعي؛ لأنّه تصوّر، وليس من وظائف التصوّر- بمختلف ألوانه- الكشف التصديقي.
الثانية- أنّ العلم بوجود واقع للعالم على سبيل الإجمال، حكم ضروري‏